سؤال عن الظلم والمظلومية بين أبناء الجنوب السوري.

من ظلم من؟!

سؤال عن الظلم والمظلومية بين أبناء الجنوب السوري.
إن السؤال عن الظالم وعن المظلوم في العلاقة بين محافظتي درعا والسويداء، خلال الأحداث الدائرة منذ عشر سنوات أو السؤال عن البادئ فيها بالظلم، ليس اعتباطياً، لأن له ما يبرره على أرض الواقع، غير أنَّه لا يهدف بطبيعة الحال إلى تحديد المظلوميات وقياسها، أو وضعها على ميزان القهر والاضطهاد. كما أنه لا يسعى من وراء ذلك إلى اتهام أحد الطرفين، أو العمل على تبرئتهم. بل يسعى إلى تحليل وتفكيك هذه المظالم، وفهم الأساس النفسي الفردي والاجتماعي، للشعور بالمظلومية، وتوصيفها، وتفكيكها، في محاولة لتجاوزها. وتجاوز أي شيء لا يعني أبداً القفز فوقه، أو نكرانه، بل، إخراجه للعلن، وتفحصه جيداً، وفهم الأساس الكامن خلفه، وهذا ما من شأنه أن يدفع في اتجاه تجاوزه.
دعونا أولاً نميز بين الظلم والمظلومية، فإذا كان الظلم هو الجور على الآخر وإلحاق الأذى به، والاعتداء على الحقوق، فإن المظلومية هي تبنّي هذا الظلم سياسياً واجتماعياً، وتحويله إلى أيديولوجيا، ورفعه كشعار. واستثماره كأساس للعمل السياسي، وتكريسه في اللاوعي الجمعي لأفراد الجماعة عبر استحضاره المستمر في الخطاب السياسي والثقافي كجذر وأساس لجميع مشاكل هذه الجماعة. والجدير بالذكر أن المظلومية لا تهدف لرفع الظلم وتحقيق العدالة، بقدر ما تعمل على الانتقام وتبرير أي سلوك تقوم به إزاء الآخر، حتى لو لم يكن هذا الآخر هو المتسبب بإيقاع الظلم. إن المظلومية إذن تعمل في اتجاهين الأول قهري مازوخي يقوم على التشبث بالمظالم التي تعرض لها الفرد، أو الجماعة بشكل طفولي بكائي، والثاني يظهر بشكل عنف مبرر وعداء تجاه الآخر/ الجماعات الأخرى في حين توفرت له الظروف المواتية.
إن الشعور بالمظلومية ليس غريباً أو بعيداً عن ذهنيتنا العامة، وهو منتشر بين مختلف الطوائف والمذاهب، والقوميات، والطبقات، والمدن السورية، تجاه بعضهم البعض، لا سيما منهم المتجاورين، والمتباينين إثنياً، ومذهبياً، وعددياً، تجعل جماعة ما عرضة لعسف الأكثرية أو لعسف استعمال السلطة. وربما هو الأقل حظاً في منطقة حوران قياساً بأغلب المناطق السورية الأخرى.(1) وإذا أردنا التوسع في الاستدلال قليلاً، فإننا نجد هذا الشعور بين أبناء الدول المجاورة (سوريا ولبنان) على سبيل المثال، وهذه العلاقة بالذات خير دليل يفسر لنا كيف توجّه المجتمعات المقهورة والمضطهدة عداءها نحو بعضها البعض في حين أن كليهما واقعان تحت نير الاستبداد والتخلف ذاته ويمارس عليهما الاضطهاد والقهر ذاته وإن بصور وأشكال مختلفة. وهذا ما عمل مصطفى حجازي على دراسته في كتابه “التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور” حيث يؤكد في سياق بحثه أنه وفي المجتمعات المقهورة، تظهر بين الجماعات المجاورة “علاقات صراع وعداء وحذر واضطهاد. وأن كل التناقضات الداخلية التي تعيشها الجماعة توجه إلى الجماعات الأخرى. ومن الواضح أن هذه العلاقات العدائية الاضطهادية بين الجماعات تشتد وتقوى بقدر تعرضها جميعاً لقوى متسلطة تبسط سلطانها على الجميع”(2)

….


بعد عام 2011، وما أعقب ذلك إلى اليوم من تعقيدات سياسية وعسكرية، وتخندقات، وتدخلات خارجية، وما إلى ذلك من انتشار للسلاح، والفصائل المسلحة، وكل المآسي التي طالت الشعب السوري من نزوح وتدمير وقتل واقتتال، واحتلالات مختلفة، وفوضى أمنية، وفقر وتهميش، وانتشار الجريمة، وعمليات الخطف والخطف المضاد. وفي ظل كل هذا الجو المشحون بعدم الأمان، بالحوف والقهر، يصبح من المرجح ظهور نزعات عدوانية وعنفيه، وكذلك نزعات تعصبية، فالإنسان المقهور والمغلوب على أمره معرض للوقوع في التعصب والانجراف فيه، مع أن مصلحته هي بالضبط في مقاومتها والتصدي لها. ولذلك فإن خطر الانزلاق في العنف يبقى وارد طالما لم توجه طاقات الإنسان المقهور في اتجاه البناء والتغيير الذي يعود خيره عليه وعلى الجميع. فيما عدا ذلك فأن حلوله العنفيه والتعصبية هي حلول انتحارية، لا تعرف سوى التدمير وسيلة لتحقيق أهدافاً وهميه. ووفقاً لحجازي أيضاً فإن للمتسلط الداخلي وحليفه الأجنبي اليد الطولى دائماً والمصلحة في تفجير هذا العنف واستغلاله (3). وهو عندما يتأجج أو ينفجر، يشكل عقبة جديدة أمام التوجه نحو التغيير البنّاء.(4)
ومن الجدير بالذكر والملاحظة أخيراً أنه ورغم كل الظروف الموضوعية السابقة، التي تعمل بشكل متواتر على خلق صراع بين محافظتي درعا والسويداء، قاومت جلّ القوى في المنطقتين أي انجرار نحو التصعيد، وربما لهذا دلالة مهمة، تفيدنا في تجاوز السؤال الذي انطلقنا منه، وتحيلنا إلى أساس عقلاني متين يجب البناء عليه، بحيث يكون التقارب الشديد والتداخل الجغرافي والاجتماعي والثقافي في منطقة حوران، إضافة إلى وعي المصلحة الوطنية العليا المبتغاة في بناء دولة وطنية تعزُّ كل مواطنيها وترفع عنهم كل أسباب الحيّف، سبباً وعاملاً مهماً في تقليص أي تهديد قد يطال السلم الأهلي بين المحافظتين.

هوامش:
لا يسعفنا التاريخ كثيراً، إذا أردنا تحديد مكامن الغبن، بين محافظات الجنوب ومكوناتها، ولا بين معظم مكونات وفئات الشعب السوري ومدنه، ذلك أن المظلومية لا تتحدد وفق سياق العلاقة التاريخية بقدر ما هي تصنع التاريخ على مقاسها، فتاريخ الجارتين مليء بالتعاون، بالمصالح المشتركة، وبالوقفات المشرّفة الوطنية والاجتماعية، كما أنه يعج أيضاً بالخصومات، شأنه في ذلك شأن أية قريتين متجاورتين في سهل حوران، أو في جبلها، وشأن أية منطقتين متجاورتين في أي بقعة من بقاع الأرض.
–‐———————–
المصادر:
-مصطفى، حجازي، الإنسان المتخلف، مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور، ص 114
الحوادث التاريخية.

-شاهدة على محاولات كثيرة كانت ترمي لزرع الفتنة والشقاق، وتفجير الخلاف والصراع بين المحافظتين، وما زلنا نشهد هذا إلى اليوم.

-مصطفى حجازي، الإنسان المتخلف، مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور، ص 182

اترك تعليق