د. مازن أكثم سليمان
بعد مرور حوالي أربعة عشر عاماً على انطلاق الثورة السورية، وتحوُّلها إلى حرب دموية شنها النظام البائد ضد الشعب السوري، مُدمِّراً عبرها بنية الدولة، ومُمزِّقاً وحدة المجتمع السوري ونسيجه الاجتماعي والوطني، برزت الحاجة المُلحَّة إلى إعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة، لعلَّ أهم مداخلها هو العدالة الانتقالية.
بدأ استخدام مفهوم العدالة الانتقالية حديثاً في البلدان التي عاشت صدامات اجتماعية كبرى، وأحداثاً عنفية ودموية منظَّمة وعشوائية انتهكت القانون الدولي وحقوق الإنسان، وانطوت على المجازر والقتل والاعتقال والتعذيب والاغتصاب والاختفاء القسري والتطهير العرقي أو الطائفي، ولهذا تُعنى هذهِ العدالة بالضَّحايا قبل أي اعتبار ثانٍ.
تهدف العدالة الانتقالية إلى طي ملفات الماضي، لكنْ ليس على أساس النسيان؛ إنما على أساس الاعتراف بما جرى، وكشف الحقائق، ومحاكمة المجرمين والمتورطين، وتضميد الجراح الوطنية والاجتماعية، وتعويض الضحايا قانونياً ومادياً ومعنوياً. وهي شروط ملزمة وضرورية لانتقال المجتمع إلى حالة الاستقرار المُستدام والمصالحة والسِّلم الأهلي وحكم القانون ووضع عقد اجتماعي عادل وجديد، ينهضُ على حوار وطني شفاف وجادّ ومفتوح، ويمنع تكرار ما حدث.
غير أنَّ ما يميز ملف العدالة الانتقالية هو تعقيده وتشابكه مع الحقول السياسية والقانونية والاجتماعية والنفسية من جهةٍ أولى، واختلاف آلياته وتفاصيله وفق تجرِبة الاستجابة لحاجاته في كل مجتمع من المجتمعات التي مرَّت بمثل هذا النمط من الحروب والانتهاكات الجسيمة من جهةٍ ثانية.
فهو شبكة متكاملة من القوانين والإجراءات والمسارات المركبة والمتراكبة التي يتمُّ بناؤها تبعاً للظروف والمُعطيات الموضوعية، وتعمل عليها ووفقها المجتمعات الأهلية والمدنية والسلطات المحلية بالمُشاركة الأممية.
من أين نبدأ؟ أو كيف نبدأ؟
قد يكون السؤال الأوَّلي في حالتنا السورية هو: من أين نبدأ؟ أو كيف نبدأ؟
لعلَّ الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى مهمة جداً، فتجربة الأرجنتين {1} مثلاً بعد الحرب القذرة (1976 _ 1983) تكشف بعض آليات الانطلاق التي يمكن أن تقوم بها المجتمعات والقوى المدنية المتضامنة مع عائلات الضحايا، بدءاً من جمع الشهادات وتوثيق الأحداث والانتهاكات وحفظ الذاكرة الجماعية ومراكمة النضال.

وهذا جانبٌ ممَّا قامت به أمهات وجدات المفقودات والمفقودين عبر وقفاتهم كل يوم خميس بأوشحتهن البيضاء في ساحة مايو في قلب مدينة بوينس آيرس حاملاتٍ صور أولادهن وأحفادهن المفقودين والمغيبين، مما مثل نضالاً سلمياً طويلاً وتراكمياً ضاغطاً على القرار السياسي وعلى المؤسسة العسكرية وصولاً إلى كشف الكثير من الحقائق.
إنَّ شرط تحقيق هذهِ العدالة المُبتغاة يحتاج إلى معايير قانونية واضحة، وضمانات جادَّة ونافذة، ومرجعيات قضائية فاعلة، وآليات إجرائية حيادية، وتشاركية وطنية وأهلية ومدنية عريضة، تكونُ عائلات الضحايا ممثَّلةً فيها على نحوٍ مُؤثِّر بمعنى الكلمة.
يُعدّ أيضاً أنموذج سيراليون للعدالة الانتقالية الأنموذج الأكثر شهرة في إفريقيا، حيث تأسست (لجنة الحقيقة والمصالحة) التي أقامت جلسات وتواصل مع الضحايا والجناة، وأجرت تحقيقات موسعة وعميقة، وفكَّكت طبيعة الصراع المعقدة، وعملت على نحوٍ متزامن ومواز لعمل (المحكمة الجنائية الدولية)، وهو الأمر الذي يُبيِّن أن العدالة الانتقالية تحتاج إلى جملة من المقاربات المتكاملة، والتي تستمدُّ مسارها من طبيعة الواقع والبيئة الاجتماعية والسياسية في كل بلد.
وفي سورية يتم الحديث حالياً، بعد مطالبات وطنية واسعة، عن قرب إعلان تأسيس هيئة عليا للعدالة الانتقالية، وهيئة وطنية للمفقودين، وبما أنَّ أية مُقارَبة متكاملة وأصيلة لتنفيذ العدالة الانتقالية تقوم على الحقوق الأربعة المعترف بها دولياً: الحقيقة، العدالة، جبر الضرر، وضمانات عدم التكرار، يتطلع السوريون جميعاً، وعائلات الضحايا إلى محاكمة رموز النظام السابق، وجميع المتورطين في الجرائم والانتهاكات، وتفعيل القوانين التي تُجرِّم إنكار جرائم الأسد، والتعويض المعنوي والمادي للمتضررين.
إنَّ شرط تحقيق هذهِ العدالة المُبتغاة يحتاج إلى معايير قانونية واضحة، وضمانات جادَّة ونافذة، ومرجعيات قضائية فاعلة، وآليات إجرائية حيادية، وتشاركية وطنية وأهلية ومدنية عريضة، تكونُ عائلات الضحايا ممثَّلةً فيها على نحوٍ مُؤثِّر بمعنى الكلمة.
لابدَّ إذن من العدالة الانتقالية في حالتنا السورية، فهي أحد أهم المسارات التي تُرمِّم النسيج الاجتماعي والأهلي، وتبني الثقة بين الدولة والمجتمع، وتساعد في إعادة تشييد العقد الاجتماعي على أساس المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.
إنَّ تجذير ثقافة الاعتراف بما جرى بوصفها مدخلاً لثقافة الاعتراف بالتعددية والاختلاف، وهو ما يُمثِّلُ مدخلاً إجباريَّاً لتنفيس الاحتقان الاجتماعي، ووأد خطابات الكراهية والتحريض والعنصرية، وإعادة دمج السوريين في بنية وطنية تواصلية وتراحمية جوهرها المواطنة والمساواة والتشاركية السياسية.
ربَّما لا تتحقَّقُ العدالة الانتقالية دفعة واحدة، أو إثر تشكيل هيئة معينة حالية أو مستقبلية، فهي مسار طويل ومعقد يمر بمنحنيات عدة، ويتطلب تدابير قانونية وعُرفية في آنٍ معاً، ولعلَّ هذهِ التدابير تحتاجُ بدورها إلى إصلاحات مؤسساتية وعمليات هيكلة واسعة، لتمكين لجان الحقيقة والمُساءَلة من ممارسة واجبها بدءاً بالمحاسبة، وانتهاءً بترسيخ بيئة وطنية واجتماعية آمنة تضمن السِّلم الأهلي المُستدام، وعدم تكرار ما حدث.
ولهذا على المجتمع المدني أن يُبادر باستمرار، وأن يتصدَّى لدوره في دعم الوقفات التضامنية، واللقاءات الأهلية والمجتمعية، ودعم عائلات الضحايا بطرق مختلفة، والتشبيك مع الحقوقيين والناشطين والقوى السياسية، وبناء الملفات تراكمياً من الأدنى إلى الأعلى، وذلكَ بدءاً من جمع الشهادات وتوثيق الأحداث والانتهاكات، وتحويلها إلى ملفات قانونية متكاملة، وقضية إعلام ورأي عام يُفرَضُ فرضاً، فلا بديل عن العدالة الانتقالية على طريق بناء دولة مواطنة حديثة وعادلة.
_________________________