العاميات واللهجات المحكية اليوم عند الناطقين بالعربية ينظر إليها نظرة دونية، ذلك أن اختلافاتها فيما بينها من جهة واختلافاتها عن الفصحى من جهة ثانية يتم النظر إليه استنادًا إلى أرضية أيديولوجية إسلامية حينًا وقومية عربية حينًا آخر، لكن ماذا لو كانت هذه العاميات واللهجات هي نفسها اللهجات التي كانت سائدة قبيل الإسلام وفي مرحلة صدر الإسلام؟ ونحن نعلم أن اللهجات في تلك المرحلة كانت تعتبر تنويعة على الفصحى، أي أنها لهجات فصيحة أنزاحت في طريقة لفظ الكلمات ومخارج حروفها عن لهجة قريش التي تعتبر في ذلك العصر الفصحى المعيارية. ماذا لو تركنا النظرة الدونية للعاميات وانتقلنا إلى النظرة التي كان يتبناها العرب في صدر الإسلام لتلك العاميات؟ بمعنى هل يمكن لنا أن نغادر رفضنا للعاميات على اعتبار أنها فساد ألسن (كما وصفها ابن خلدون) لنقول أنها تنويعة على الفصحى كما كان يعتبرها العرب في صدر الإسلام.
إن عملية الانتقال هذه من نظرة (فساد الألسن) إلى نظرة (تنويعة على اللغة) تحتاج إلى جملة من الشروط وهي شروط ذهنية تمامًا.
أولها
مغادرة التقييم الإيديولوجي للفصحى والعاميات على السواء، فالنظرة العامة للفصحى اليوم على أنها هي اللسان القويم الوحيد، وهي اللسان القرآني الوحيد وهي لهجة قريش، هذه النظرة هي نظرة أيديولوجية أحادية، معظم الروايات التاريخية تكذبها، كما أن النظرة إلى العاميات على أنها ظهرت نتيجة لانحراف الفصحى وفساد الألسن هي أيضًا نظرة أيديولوجية أحادية تفترض أن الفصحى ظهرت أولًا ثم فسدت الألسن وانحرفت، والروايات التاريخية تقول غير لك، فالرسول كان يسمح للقبائل بقراءة القرآن بلهجاتها.
الثانية
فهم الفصحى واللهجات فهمًا تاريخيًا: بمعنى أن اللغة(فصحى وعاميات) كائن حي يخضع لتطورات وتقلبات وانزياحات عديدة عبر مسيرته التاريخية في التاريخ، وأن العلاقة بين الفصحى (بوصفها معيار اللهجات) وباقي اللهجات هي علاقة ضمن هذا التاريخ، فإذا أخذنا أي لهجة وحاولنا دراسة الفروق في التراكيب اللغوية المستخدمة الآن في هذه اللهجة والتراكيب اللغوية المستخدمة قبل 100 عام في اللهجة نفسها سنلمس فروقات عديدة، وأبناء جيلي ممن تعاملوا في صباهم مع كبار السن سيدركون هذا الاختلاف، هذا الاختلاف لا يطال العاميات فقط فهو يطال الفصحى أيضًا وبنفس الوتيرة والشكل والمضمون، أي أن الاختلاف الذي وقع في اللهجة باتجاه تهذيبها، وترقيق ألفاظها، وهجر الغريب منه، واختيار تراكيب معاصرة، وقع بالطريقة نفسها على الفصحى، إن أي نص فصيح لرواد النهضة (الجيل الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين) مقارنة مع أي نص مكتوب في أيامنا سيضعنا فورًا أمام هذه الفروق وخصوصًا إذا كان النصان يبحثان الموضوع نفسه. إن التطورات التي وقعت على التراكيب والمفردات الفصيحة وقعت نفسها على التراكيب والمفردات العامية وبشكل خاص تلك العاميات التي تعرض أبناؤها للاحتكاك مع أبناء لهجات أخرى.
ثالثاً
في فهمنا لمعيارية الفصحى : معيارية الفصحى في صدر الإسلام لم تكن معيارية نافية إنما كانت معيارية جاذبة، فالعرب لم يرفضوا اختلاف اللهجات ولم يدينوه كما أنهم لم ينظروا إليه بدونية، إنما كانت نظرتهم له أنه تنويعة على اللهجة المعيارية (تنويعة على المعيار) فهو اختلاف طبيعي غير مستنكر بل هو عند كثير من أئمة اللغة الأوائل يعتبر اختلاف مرجعي أي يمكن أن نعتد به ونستند إليه في تأصيل اللغة، اللغة المعيارية اليوم هي لغة نافية للهجات، لا تحترمها، تنظر إليها على أنها فساد ألسن وانحراف عن اللسان الفصيح، وهذا بسبب الأرضية الفكرية والأيديولوجية لأصحاب هذه النظرة، الأرضية التي لا تعترف بالتعدد والاختلاف، بل بالواحدية والتماثل، إن مفهوم المعيار لديهم هو كسرير بروكوست لا يقبل ما يزيد عنه فيقوم بقصه، ولا يقبل ما ينقص عنه فيقوم بمطه، والنتيجة هي التماثل والواحدية ورفض الاختلاف والتعدد بل أكثر من ذلك فإن ما أسفرت عنه هذه النظرة للمعيارية هو رفض العمل باتجاه اقتراب العاميات من الفصحى، واقتراب الفصحى من العاميات، وازدياد الشقة بينهما.
رابعاً
الترجمة الداخلية: والترجمة الداخلية هي عملية تتم داخل اللغة نفسها، نترجم كلامًا عربيًا بكلام عربي، وهذه العملية نقوم بها في الفصحى(من كلام فصيح إلى كلام فصيح) ونقوم بها في كل عامية من العاميات، وهي عملية ذات شقين:
1-ترجمة المفردات: بمعنى العجز عن معرفة معنى مفردة من مفردات النص والاستعانة بالمعجم لمعرفة معناها المعجمي، وهي ترجمة معجمية، (هذا ما نقوم به عند قراءة بعض الآيات القرآنية او الأشعار الجاهلية مثلًا) وهنا تكون الكلمة غريبة كلينا علينا أو ملتبسة المعنى، فنتعامل معها كأنها مفردة من لغة ثانية نحتاج إلى القواميس اللغوية لنقف على معناها.
2-ترجمة السياق أو المعنى: وهذا هو التفسير، فالتفسير هو درجة من درجات الترجمة حسب هايدغر، وهذا يحصل عندما نعرف معاني المفردات في النص، لكن المعنى العام للنص هو أوسع من مجموع مفرداته، فرغم معرفتنا لمعنى كل مفردة لكن نجد أن النص يحتاج للتفسير.
هاتان العمليتان للترجمة تحصلان بكل لهجة لكن نلاحظ ان ترجمة المفردات لا تحصل بالنصوص الحديثة أو المعاصرة, ذلك أن المفردات (بشكل عام) هي مفردات حية نتعامل معها الآن، على حين ترجمة السياق تحصل دائًما وبكل اللهجات (كل اللهجات لها نصوص شعرية كما أن تقنية تسجيل الصوت والفيديو تضعنا أمام نص محكي وليس مكتوب). اللافت للنظر أن اللغة العربية فيها ترجمة من مستوى آخر غير المستويين السابقين هو الترجمة من الفصحى للعامية والعكس، وهذا ما نقوم به أثناء عملية الكتابة أو القراءة وهو أخطر الجوانب وأكثرها حساسية، ذلك أن الكاتب يفكر بلغة ويكتب بلغة أخرى هذا إذا اعتبرنا أن اللهجة هي فساد لسان، فضمن هذا الاعتبار يصبح الكاتب كمن يفكر في لغة فاسدة، ثم يترجم إلى لغة صحيحة، وهذا غير صحيح بالحقيقة، لأن اللهجة أيًا كانت طالما أنها لهجة عربية فهي ضمن دائرة اللغة نفسها، خصوصًا إذا انتبهنا أن قوانين علم الصرف لا تختلف بين اللهجات فيما بينها وبين اللهجات والفصحى، الذي يختلف هو بالحقيقة حركة أحرف الكلمات وحركة أواخرها، أي أن بنية الكلمة صرفيًا لا تختلف بين الفصحى والعاميات، وعلم الصرف هو الأساس في بناء اللغة وليس علم النحو.
بقي أن نقول أن الكلام السابق ليس تسويقًا للعاميات على حساب الفصحى، إنما هو إعادة الاعتبار للفصحى بوصفها معيارًا لغويًا جاذبًا وليس نابذًا، وإعادة الاعتبار للهجات بوصفها تنويعة على الفصحى وليست فساد ألسن ، وبالتالي مغادرة النظرة العدائية للهجات التي تستند بقاعها العميق إلى أن الفصحى لغة مقدسة وغيرها مرذول، مغادرة هذه النظرة إلى نظرة ترى أن اللغة كائن حي تعيش بعالم حي وتتمظهر بمظاهر مختلفة على شكل لهجات محكية تختلف من منطقة إلى أخرى.
للمقال جزء ثان متمم يتعلق في النظر لعلمي الصرف والنحو بين الفصحى والعامية.
يتبع.