“تشريح سقطة”: حين لا يكون السقوط من الشرفة… بل من الداخل

قراءة في الفيلم الفرنسي “تشريح سقطة”1

ناصر الحلبي

هل كل سقوط يُرى بالعين؟


أم أن هناك أنواعاً أخرى من السقوط… لا ضجيجَ لها، ولا شهود، لكنها أكثر إيلاماً؟
فيلم “تشريح سقطة” للمخرجة الفرنسية جوستين ترييه” لا يتعامل مع السقوط كحادث، بل كحالة إنسانية، كمأزق داخلي، كمرآة نضطر للوقوف أمامها حين تنهار الأشياء التي كنا نظنها متماسكة.

في هذه التحفة السينمائية التي انتزعت السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي 2023، لا نشاهد جريمة، بل نغرق في تشريح علاقة، لا نتابع المحاكمة بقدر ما نحاكم أنفسنا، نكتشف هشاشة الإنسان في مواجهة الآخر… وفي مواجهة نفسه.

مشهد أول: رجل ميت عند سفح المنزل

في بداية الفيلم، يُعثر على صامويل جثة هامدة أسفل منزله الجبلي، بعد لحظات من حديث غير مكتمل مع زوجته ساندرا. المشهد ليس دراميًا على الطريقة الهوليودية، لا موسيقى، لا مفاجآت، لا صراخ. فقط صمت كثيف، كأن الطبيعة نفسها قررت أن تبقى محايدة. هكذا يبدأ الفيلم: بسقوط، حرفي ومجازي، يجرّنا إلى قاعة المحكمة، لا لنبحث عن القاتل، بل لنواجه كل تلك الأسئلة المؤجلة: من نكون بعد عشر سنوات من العيش مع شخص نعرفه جيدًا… أو نعتقد أننا نعرفه؟
هل نحن شركاء في الحب، أم خصوم في مشروع فاشل؟ وهل الكتابة – كما في حالة ساندرا – تنقذنا من الانهيار، أم توثّقه وتؤججه في آن؟

قاعة المحكمة: الحياة تحت الميكروسكوب

في قلب الفيلم تمتد المحاكمة، لا كحدث قانوني، بل كعرض وجودي. كل كلمة تُقال يتم فحصها، كل نبرة، كل ذكرى.
المحامون، القضاة، الإعلام، وحتى الجمهور، يتحولون إلى مفسّرين لحياة زوجين لم يعودا قادرين على فهم بعضهما البعض. ساندرا، وهي كاتبة ألمانية، تتحدث الفرنسية بلكنة ثقيلة. حين يشتد الضغط، تعود إلى الإنجليزية، بحثاً عن دقة أو ملاذ أو ربما عن ذاتها الأصلية. اللغة في هذا الفيلم ليست مجرد وسيلة تواصل، بل رمز للغربة، للحيرة، للهوية المهتزة.

تتحول المحكمة إلى مساحة مفتوحة للصراعات: الزوجية، الثقافية، الفنية. وبدلاً من أن نعرف إن كانت ساندرا قد قتلت زوجها، نكتشف كيف قتل الاثنان علاقتهما مع الوقت، بالصمت، بالتوقعات، بالتعب.

كتابة المرأة… ومحاكمتها

في لحظة ما، يستخدم الادعاء أحد نصوص ساندرا الروائية كدليل ضدها. في عالم الفيلم، لا فرق بين ما تكتبه المرأة وما تعيشه، وكأن حقها في الخيال مشكوك فيه فقط لأنها امرأة. هذه نقطة لامعة في الفيلم: لا يرفع لافتة “النسوية”، لكنه يجعلنا نراها في التفاصيل الصغيرة. في الطريقة التي يُنظر بها إلى ساندرا: امرأة مستقلة، مثقفة، غير عاطفية بالشكل المتوقع. ليست زوجة مطيعة، ولا أماً مثالية، ولا امرأة محطمة بالبكاء. ولذلك، تبدو “مذنبة” في نظر المجتمع… حتى قبل أن تبدأ المحاكمة.

دانييل: البصيرة التي لا تحتاج عيوناً

وسط كل هذا، يبرز الابن الكفيف دانييل، بوصفه أقرب ما يكون إلى ضمير الفيلم. هو لا يرى العالم كما نراه، لكنه يسمعه، يلمسه، يحسّ نبراته. عيناه مغلقتان، لكن وعيه مفتوح على اتساعه. في مشهد عميق، يُطلب من دانييل أن يشهد ضد أمه. وهنا ينهار كل شيء: العدالة، الأبوة، الأمومة. كأن الفيلم يقول: في عالم ترتبك فيه القيم والمعاني، يصبح الطفل هو الوحيد القادر على رؤية ما وراء الكلمات.

تشريح السقطة: فيلم عن الشك… لا عن الجريمة

في نهاية الفيلم، لا نحصل على إجابة قاطعة. هل ساندرا قتلت صامويل؟ أم انتحر؟ ترييه لا تمنحنا خاتمة، بل تسألنا:
هل نريد أن نعرف الحقيقة فعلاً، أم نبحث فقط عن راحة الحسم؟ الفيلم لا يُرضي رغبتنا في العدالة، لكنه يُشبع فضولنا نحو فهم الإنسان. كلنا ساندرا، وكلنا صامويل، بطريقة أو بأخرى. نعيش في علاقات طويلة، نُخفي أشياء، نغضب، نُحب، نُخون، نغفر… ثم نسقط. أحياناً من النافذة، وأحياناً من داخلنا.

أخيراً: هل يمكن تشريح السقوط… دون أن نسقط معه؟ “تشريح سقطة” ليس فيلماً سهلاً، لكنّه ضروري. ليس لأنه يمنحك متعة الإثارة، بل لأنه يزرع فيك قلقاً جميلاً.
قلق الأسئلة التي تبقى بعد انتهاء العرض: متى سقطنا نحن؟ وهل عرف أحد؟ وهل كنا مذنبين… أم مجرد بشر؟

اترك تعليق