ربما بسبب التهذيب، وربما امتداداً لنزعة الشعر العربي الأصلية، ومن بعدها الأمثال والأقوال السائرة، وميلها بلاغياً لاستخدام الكنايات. والأرجح لمزيج من كلا السببين. استخدمت أجيال من النساء والرجال في مجتمعنا تعبير: “هديك الشغلة” عند كل إشارة إلى العلاقة الجنسية. سواءً كانت العلاقة موضوع الحديث شرعية أو غير شرعية، بين رجل وامرأة او بين رجلين، أو امرأتين، أو بين رجل وعنزة.
وقبلها بزمن طويل لم يكن أحد يذكر الجن بالاسم الصريح كي لا يحضروا (والعياذ بالله)، فيقول حين يروي حكاية عنهم: “البسم الله الرحمن الرحيم فعلوا كذا”، إذ يعتقد أنه بذلك يطردهم فيما يذكرهم.
فالكناية جزء أصيل من ثقافتنا، لا بدافع البلاغة، بل اتقاءً للشرور بكل أنواعها، شرور السلطات، وصمة العيب، الفأل السيء، تقديم أمثولة سيئة للصغار.. ولذلك فحين تطورت وسائل التشخيص الطبي، واتسعت حالات اللجوء إلى المؤسسات الصحية، وصار مرض السرطان بأنواعه ومواضع انطلاقه، معروفاً ومشخّصاً، اخترنا له اسم: “هداك المرض”. رغم أننا نملك تعويذة فعّالة لغيره من الأمراض، وهي قول “كش برة وبعيد”. لكنها ـ حسب اعتقادنا ـ أضعف من أن تنجح بإبعاد مرض بهذا الخبث.
روت لي طبيبة أورام متمرّسة، أن سيدة اتصلت بها عبر الهاتف ذات مرة، وقالت لها: أنا فلانة، فاعتذرت الطبيبة لأنها لم تتذكرها، فقالت: “وَلَوْ دكتورة، أنا راجعتك من خمس سنين وكان معي هداك المرض”. فقالت لها الطبيبة: باستثناء نصف عائلتي، كل من أعرفهم معهم “هداك المرض”، أساساً أنا معي ماجستير في “هداك المرض”.
اعتباراً من السبعينات، وازدياد تغول الأجهزة الأمنية، وتغلغلها في الحياة اليومية للناس، لاقَت بعناصرها الكناية ذاتها، فصار اسمهم: “هدوك الجماعة”. والنائم عندهم صار اسمه: “اللي ببيت خالته”، والعائد من عندهم وقد كُتِب له عمر جديد: “رجع من هونيك”.
وفي منتصف نيسان 2011، بعد أيام من انقسامنا بين فخور ومذهول ومذعور، جاء “كبار” قرية مصنفة مركز ناحية في ريف حماة إلى “كبير” قرية مجاورة في ليلة خميس، وطالبوه برجاء أن يمنع شباب قريته من الذهاب غداً وتنظيم مظاهرة في قريتهم. أجابهم: شباب ومتحمسين، خلوهم يطلعوا، كل الضيع عم تتظاهر. فقالوا له: إي مظبوط كل الضيع عم تعمل مظاهرات، بس يا أخي شباب ضيعتكم، الله يسترنا، بس يطلعو بيهتفو: “الشعب يريد هديك الشغلة”.
بعد تلك الأيام، وبسبب ما جرى فيها وبعدها، تطور اسم “هدوك الجماعة” قليلاً ليصبح: “البسم الله الرحمن الرحيم” أيضاً. وأضيفت لاختصاصاتهم مهام كثيرة، فحين لم يجد الاقتصاديون السوريون ـ أقصد الحكوميون منهم ـ وسيلة اقتصادية أو مالية أو سياسية لضبط أسعار الصرف، أوكلوا المهمة لـ “هدوك الجماعة” للقبض على كل من يتداول، يتعامل، يسعّر، يفكّر، بالدولار. فسارع السوريون إلى تكنيته بألقاب عديدة، أكثرها استخداماً: “هداك” و”الشوئسمو”، وفي الأوساط الأكثر احترافية “الأخضر” و”الأول” وتبعه اليورو ليصبح “الثاني” و”الملون”، وبالقياس صار اسم الريال السعودي “تمر وعجوة” وهكذا..
قبيل موسم الدراما الرمضاني هذا العام تسربت مقاطع من مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” واستنتج المشاهدون أنه يتناول أجواء واقعية، ويحكي حكاية حساسة، فصار اسمه مباشرة: “هداك المسلسل” حتى أنك في اليوم الأول من رمضان لو وضعت على محرك البحث غوغل حرفي هاء ودال فسيكمل لك تلقائياً: هل تقصد: هداك المسلسل، ثم يضيف تحته بخط صغير: رائج الآن.
أعرف انه ليس بقدرة، ولا رغبة، ولا مهمة مقال أن يحلل مسألة بهذا التعقيد وبهذا العمق، ولا حتى أن يصل لأول طبقة من فهمها. فليس له أن يتطاول على علم الاجتماع أو علم نفس الجماعات، لكنه يستطيع أن يفعل ما هو أبسط وأسرع، أن يطرح الأمثلة التي تصلح لتكون أسئلة، ليحرض العقول القادرة على التفكير.
جميعنا يعرف أننا نعيش زمناً قاسياً ومضطرباً، وأن سِمَتيه الأساسيتين هما الخوف والقلق، ونكاد ننتبه جميعاً أن تعامل الشعوب مع فترات الخوف والقسوة متباينة، وقد رأينا في التاريخ كيف تعامل الألمان واليابانيون مع فترات ضعفهم وخوفهم، وكيف صمتوا وأحنوا رؤوسهم وانطلقوا للعمل بصمت لعقد أو عقدين قبل أن يرفعوا رأسهم وينظروا في عين بقية العالم مجدداً.
ونرى في منطقتنا أن المصريين حين يخافون يؤلفون النكات ويضحكون، وأن العراقيين يؤلفون المواويل الحزينة ويبكون، وأن السوريين حين يخافون فهم يتماهون تماماً مع هذا الخوف، يخلصون له ويحذفون من لغتهم كلمات جديدة في كل مرة، ويكنّون عنها بذلك الشيء البعيد “هديك الشغلة”.
ولأني منهم، فأنا أنهي الآن كتابة مقال، ثم أقول لمن بجواري: سأرسله لـ “هداك الموقع”.