سارة حسن
…..
الذاكرة الجمعية: بوصلة محافظتي درعا والسويداء
….
تُعرَّف الذاكرة الجمعيّة بأنها الطريقة التي تتذكر بها الجماعات تاريخها, أي أنها ظاهرة مجتمعية ذات بعد جمعي، تتأثر بالبيئات المجتمعية والعوامل السياسية المحيطة، والطرق التي يتم رسمها لسرد التاريخ ونقله وتغييره، واستناداً لعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي “موريس هالبفاكس” تُعتبر الذاكرة المشتركة لجماعة بشرية معينة شرطاً أساسياً لوجود تلك الجماعة، حيث أنها تؤسس هويتها وتكوّن مجتمعها عبر فعل التذكر، فما الذي تعرضت له الذاكرة الجمعية لمحافظتي درعا والسويداء؟
إنّ التوتر الحاصل بين محافظتي درعا والسويداء بعد2011م، ومهما كانت الأسباب التي أنتجته, والجهات التي أدارته، جعل من كلا الطرفين مستفِزاً ومستفَزاً، وهذا ناتجُ طبيعي لطرفين تعرضا لكلِّ أنواع الألم من خسارة وفقدان وخذلان، فإذا كان الاستفزاز في اللغة هو: حثٌّ وتحريض يؤدي للغضب, فإنّ تعريفه بيولوجياً هو: أنّ اللوزة الدماغية تطلق إشارة تحذير عندما يستشعر الإنسان خطراً معيناً، حيث تفرز هرمونات التوتر في أنحاء جسدنا، لتهيئنا فوراً للقتال أو الفرار، وتغلق المسار العصبي المؤدي إلى الفصوص الأمامية المسؤولة عن التفكير والتخطيط وحل المشكلات, وتعطي أوامر مباشرة دون المرور بها, حتى أنّ ذاكرتنا تفقد مصداقيتها، فلا نعود قادرين على تذكر أشياء من الماضي تهدّئ من روعنا، وهذا ما جعل “دانييل غولمان” في كتابه الذكاء العاطفي يصف عملها: “باختطاف اللوزة الدماغية للإنسان”، هذا الاختطاف الذي شكّل عبر التاريخ البشري محرّكاً ودافعاً لأكثر المعارك دموية عبر التاريخ.
ولهذا فإنّ استنفار الأقلام الواعية والعقول المسؤولة للتذكير بالتاريخ المشترك والعيش المشترك وحسن الجوار والمصالح المشتركة بين محافظتي درعا والسويداء, ليس من قبيل الترف أو الكلام المعسول، أو اجترار الماضي والتغنّي به والتحسر عليه, كما أنه ليس من باب تهدئة الخواطر والتلاعب بالعواطف, وإنما من باب تفعيل الذاكرة الجمعية التي تشكلت بين درعا والسويداء عبر خبرة واقعية متبادلة, فهاتان المحافظتان اللتان تغذي الذاكرة المشتركة بينهما وحدة الانتماء والمصير, لا يمكن لهما الابتعاد أو الاستغناء عن بعضهما, فالتداخلات بينهما هي مجرى السيرورة الطبيعية لوجودهما عبر الثقة التي عززها تاريخٌ عاصف من المحن والشدائد, وإذا لم يستطع أحد النيل من هذه العلاقة, ذلك لأن عمقها يبرز دائماً ليدافع عنها.
ولكن فعلي التّذكر والنسيان يخضعان لتأثير وتحكّم الأنظمة والقوى السياسية، عوضاً عن التأثير المجتمعي، حيث تستطيع السياسة والقوى المسيطرة أن تصنع من أحداث معينة ذاكرة تشق طريقها إلى وعي الأفراد وعقولهم، بالمقابل تستطيع أن تُسكت أحداثاً أخرى وتضمّها إلى قائمة النسيان بأساليب عديدة تنطوي أساساً على التلاعب غير الظاهر بالعقول, وتغذيتها بالنزعات الماقبل عقلية وغير المنطقية, فما شهدته درعا والسويداء دليلٌ قاطع, على أنّ محو الذاكرة الجمعيّة هي الأداة الأهمّ التي استُخدمت لزعزعة العلاقة بينهما.
ولكن هذه الأداة التي استُخدمت لم تؤتِ ثمارها، فمختصو الذاكرة يعتبرون أنّ هناك نوعين من النسيان, الأول تختفي معه المعلومات وتنمحي, بينما الثاني لا تكون المعلومات قد اختفت كليّة, ولكن يصعب التوصل إليها بسبب تراكم معلومات جديدة فوقها, أو بسبب الضغط النفسي الذي تحدثه الأزمات والمحن والحروب، والضغط النفسي الذي يتعرض له الأفراد جراء زخم وتسارع الأحداث، ومن الواضح أنّ ما تعرضت له المحافظتان في السنوات العشر الأخيرة ينتمي إلى النوع الثاني, حيث تمكنت وتيرة الأحداث المتسارعة بين المحافظتين من إضعاف الذاكرة الجمعية ـــــ وإن لم تتمكّن من محوهاـــــ وجعل كلا المجتمعين “في حالة تعبئة نفسية دائمة استعداداً للصراع” بتعبير “مصطفى حجازي”, وهذا ما أسهم في تقليص وليس غياب هوامش العقلانية والحوار بين السهل والجبل.
الخلل الذي تعرضت له العلاقة بين المحافظتين، ليس إدانة ولا وصمة عار في تاريخهما، وإنما ناتج طبيعي لكل الضغوطات التي تعرضتا لها، وما ينفي الإدانة عنهما هو الجهد المبذول للعقلاء في كلتا المحافظتين، والذي ما زال مستمراً لتجاوز هذا الخلل، والعودة إلى الذاكرة الجمعيّة باعتبارها هويةً وانتماء, وخط الدفاع الأول للمجتمعين، في ضوء التغيرات التعسفيّة التي فُرضت وتُفرض عليهما, فالقواسم المشتركة التاريخيّة والوطنيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تشكّل نسيج الذاكرة, هي البوصلة التي تشير إلى الجهة الصحيحة, حيث يجب أن نقف جميعاً, وكلتا المحافظتين لم تفقدا بوصلتهما، فجهود العقلاء والناشطيين المدنيين, لم تنقطع عن تفعيل الذاكرة الجمعية، وردم الهوّة ما بين الذاكرة الجمعية وما يناقضها على أرض الواقع، من خلال تنشيطها سياسياً واجتماعياً وثقافياً، واستعادة فعاليتها وحيويتها