هل حقاً نخاف من أسئلة أطفالنا؟


لم ينقطع تاريخياً تعريف مفهوم النقد، ولم تتوقف التيارات الفكرية المتعاقبة عن تقصّي وظائفه وأهميّته، وبالرغم من النمو المعرفي المتزايد لقراءة هذا المفهوم ومنحه دلالات جديدة، لكنّه ما يزال بشكله العام يحيل إلى تفحّص الشيء والحكم عليه، وتمييز الجيّد من الرّديء، والإضاءة على السلبيات والإيجابيات، وكشف مكامن القوة ومكامن الضعف، وذلك لتوليد أفكار ورؤى جديدة تؤدي إلى التقدم الاجتماعي والإنساني، وبهذا الصدد يقول “أريك فروم” في كتابه “فن الإصغاء” “إذا لم أفكر نقدياً فأنا عرضة لكل التأثيرات ولكل المقترحات، ولكل الأخطاء ولكل الأكاذيب المنتشرة التي أتلقنها من اليوم الأول فصاعداً. ولا يمكن للمرء أن يكون حراً، ولا أن يكون ذاته، ولا أن يكون له مركزاً في ذاته، ما لم يكن قادراً على التفكير نقدياً”1.
يشير المختصون إلى أنّ تربية ملكة النّقد تبدأ منذ مرحلة الطفولة المبكرة، فهي قدرة مكتسبة تحتاج للتعلم، ويُعد تحفيز التساؤل وتشجيعه لدى الأطفال الخطوة الأولى في نمو هذه القدرة، حيث تشكل أسئلة الأطفال حبلاً سُرياً، يغذي وجودهم ويقلّص مخاوفهم، لامتلاكهم القدرة مع الوقت على ربط الأسباب بالنتائج، ولهذا تكتسب أسئلتهم والإصغاء إليها أهميّة قصوى في نمو وعيهم وتفتح مداركهم واتساعها، من ثم امتلاك التفكير النقدي لاحقاً، الذي يمكّنهم من تعقّب السبب إلى النتيجة، ويربي لديهم في الوقت ذاته حس المسؤوليّة اتجاه ما يحدث في الواقع، ويشعرهم بالانتماء له، ولكن في واقعنا الاجتماعي غالباً ما نجد أنه كلما تقدم الطفل في مراحل نموه، كلما ازدادت مؤشرات الخوف لديه، وارتفعت نسب القلق وعدم الاطمئنان، والتنصّل من المسؤوليّة. إنّ هذه المؤشرات تعود إلى خلل يحدث في أنظمتنا التربوية، حيث تُصادَر العلاقة بين الأسباب والنتائج، عبر عملية القمع التي تؤسس لخنق التفكير النقدي “الذي يتم تطريقه خطوة بعد خطوة” بتعبير “فروم”2.


فإذا قمنا برصد تناقضات السلوك الاجتماعي بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، يمكن أن نفهم الطريقة التي تعتمدها التنشئة الاجتماعيّة في تربية أطفالنا، فبينما نريد من أطفالنا أن يكونوا الأفضل دائماً، فإننا غالباً ما نرى أنهم ليسوا كذلك، لا في البيت، ولا في المدرسة، ونادراً ما ينتبه الوالدان إلى أنّ سلوك طفلهما ينطلق من سلوكهما نفسه، وأنّ قذف المسؤوليّة على الأطفال، ما هو إلّا تبرؤٌ من واجبهما تجاه نموهّم النفسي والمعرفي، ففي ظلّ غياب الحوار مع الأطفال في الأسرة، يتخذ الوالدان الطريقة الأسهل والأقصر لتوجيه سلوك الطفل أو بالأحرى قمعه، فالتخويف نتائجه سريعة ومباشرة، ولكن هذا التخويف سيختزل عالم الطفل إلى عصا وجزرة، إلى عالم يتأرجح فيه ما بين الثواب والعقاب، لتغدو علاقة النتائج بالأسباب علاقة مشوشة أو منقطعة، حينها يصبح مشهد العنف، هو المشهد الأكثر ألفة بيننا.
إنّ آليات التلقين التي تخنق التساؤل وتعدم السؤال، تُهيء الطفل للخضوع والتبعيّة، ممّا يعني أنه سيقبل جميع المبررات اللاعقلانيّة واللاأخلاقيّة للسلوك العنفي، فشعور الأفراد بالاغتراب يبدأ منذ اللحظة التي يسود فيها التلقين ويختفي التساؤل، وهذا ما قصدته “نوال السعداوي” في قولها: “يبدأ التطرف والجمود العقلي من الطفولة، حين يكفّ عقل الطفل عن طرح الأسئلة البديهية تحت اسم المحرم، ونتحول إلى ببغاوات نردد ما يقوله الآخرون”3، في هذا العالم تصبح الأسئلة الوحيدة المسموح بها، هي الأسئلة التي نطمئن إلى إجابتها، بينما نقوّض كل سؤال نفترض أنه يحتمل تهديداً أو خطراً محتملاً على كل ما يصنعه الجهل، وليس فقط على المحرم الذي أشارت له السعداوي، فالاغتراب الذي تتباين مظاهره يعود في أساسه إلى فقدان المعنى، ولكن أي معنى؟ إنّه ببساطة المنطق الذي يربط السبب بالنتيجة، فأيّ تلاعب في هذه المنظومة، يعني إقصاءً لملكة النقد وتهميشها، وهذا ما يصنع العنف، ويجعل من التطرّف في كافة أشكاله وطبقاته حلاً وجودياً مناسباً لكل من فقد المعنى من وجوده واغترب عنه.
نحن حقاً نخافُ أسئلةَ أطفالنا، خوفاً مبطناً غامضاً، نواجهه بالاستهزاء والاستخفاف حيناً، وبالتجاهل وبالقمع حيناً أخر، وقد نصف هذه الأسئلة بالأسئلة المحرجة والغريبة والمزعجة، ولكن هل هي في الحقيقة كذلك، أم أننا لا نجرؤ على مواجهتها؟ فأسئلة أطفالنا: كيف جئت إلى الحياة؟ أين كنت قبل أن أولد؟ لماذا أنا هنا؟ ماذا يحدث بعد الموت؟ وغيرها الكثير من الأسئلة المتعلقة بالحياة والموت، بالخير والشر، بالزواج والجنس، تنبثق من ثلاثة أسئلة وجودية كبرى: من أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين سأذهب، ولكن هذه الأسئلة وفي جوانب كثيرة منها تهدد مسلماتنا الثقافية التي لم نتعب أنفسنا في فهمها وتحليلها.

ثقافة الخوف
إنّ ثقافة الخوف المتبادلة بيننا وبين أطفالنا تشكّل خطراً على مراحل نموّ الطفل، حيث تحيل هذه الثقافة تساؤلات الأطفال إلى أسرار تجعل الخفاء مسرح الوقائع، وكل ما سيدور في هذا الخفاء، يترك بصمات العنف وراءه، هناك سيلعب تراجع التحصيل العلمي والإخفاق والتنمّر والانتحار والتحرّش الجنسي الأدوار الرئيسة، وسيشكّل المسكوت عنه الجانب الأقوى في مجتمعاتنا، طالما تنازل الوالدان عن أدوارهما (كمحفزين للتساؤل، ومصغيين للسؤال، و مصدراً للمعلومة)، فهذا التنازل سيقابله قمع النشاط الطبيعي للأطفال، لصالح الأدوار الاجتماعيّة التي تُعمّم نماذج جاهزة لفكرة (الطفل الجيد)، والمقبول اجتماعياً، وتكرس الحس الامتثالي للطفل، وتقوّض ملكة النقد، وتمهد لاستلابه واغترابه لاحقاً في مجتمعاتنا، خاصةً ضمن الصور النمطية التي تضع كل من الذكور والإناث في قوالب تساهم التنشئة الاجتماعيّة القمعية في تحديدها وتغذيتها، فالطفل الجيد هو الطفل المطيع المتمثل للتصورات العامة التي يوافق عليها المجتمع، وهنا تتحدد أحد أهمّ وظائف الأسرة في تكريس آليّات القسر والإكراه وإنتاج أفراد متماثلين وخاضعين.
فمع استسهال أساليب التنشئة القمعية، مقابل عدم الرغبة في بذل جهد لفهم كيفية التعامل مع مراحل النمو الطبيعية للطفل، سنساهم في إعداد أطفال منتقدين لا ناقدين، تتحكّم بسلوكهم نوازع ما قبل عقليّة، تقذف ملكة النقد خارج عقولهم، وتدربهم على قبول الخطأ وتبريره، وهذا ما يؤسّس لواقع تغترب فيه القيم الإنسانية، وتزدهر القيم المضادة، التي لا تَنظُر إلى الآخر إلّا باعتباره خطراً وتهديداً. فالانتقاد يهدف فقط إلى الحطّ من شّأن الآخر وإظهار عيوبه، إنّه لا يقع إلّا عليها، لأنّ الثقافة التي تغذّيه هي ثقافة الخوف، فهل نحن عبر أساليب تنشئتنا الاجتماعية والجنسية نربي طفلاً ناقداً أم منتقداً؟

_____________________________
1_ فن الإصغاء، أريك فروم، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2004، ص 159
2_ نفس المصدر، ص 159
3_ أسئلة الأطفال المحرمة وتجديد الفكر الديني، نوال السعداوي، مجلة الأهرام، 10 يونيو 2015

اترك تعليق