أن تحب..هو ما لا تفعله مرتين

           

مقدمة (1)
سيتحدث هذا المقال عن الحب عبر الانترنت والعلاقات العاطفية التي تبدأ في العالم الافتراضي. ولن يكون منحازاً إلى وجهة النظر القائلة بأنها علاقات وهمية/ مؤقتة/ عابرة/ ولا يمكن أن تخلق حالة حب حقيقية. كما أنه ــ أي المقال ــ لن ينحاز إلى وجهة النظر المعاكسة.
مقدمة (2)
لن يقدم هذا المقال أية نصائح، أوأي تعريف للحب: ( هذه بطولة لن يدعيها صاحب المقال).
كما لن يستعرض السلبيات والإيجابيات للعلاقات العاطفية عبرالانترنت، يمكن البحث عنها في جوجل بسهولة.
مقدمة (3):

سيحاول هذا المقال الالتزام بما ورد في المقدمتين (1) و (2).

العلاقات العاطفية عبر الانترنت

لم يحتمل موضوع عبر التاريخ من أحكام قيمة (دينية واجتماعية) مثلما احتمل موضوع الحب. ولا خاض فيه سائر أصناف البشر واتجاهاتهم، بمثل هذه العمومية. سوى أن توقف الاهتمام الفلسفي بالحب، يعني تعرض الأخير للنهب والتأطير. {{ولو أن المعنى اللغوي لكلمة فلسفة (philosophy) هو حب الحكمة. إلا أن الحب الذي سنقصده هنا ليس في هذا السياق}}.

الحب الآمن..!

أحد مواقع المواعدة على الإنترنت في إعلاناته الترويجية يقول: ( إحصل على الحب من دون أن تنتظر الصدفة). و(نستطيع أن نحب دون أن نقع في الحب ) ويعلق آلان باديو ساخراً : “إذاً…لا نشوة”.
إن المواقع التي تروج لحب من دون مخاطر، حب سوف تقع خسائره على الطرف الآخر فقط. سوف لن نكون مضطرين معه لاستكشاف الشخص على أرض الواقع. حب من نوع (صفر مخاطر) لا التزام فيه من أحد الطرفين. فكما هو سهل عليك العثور على شريك، سيكون سهلاً عليك أيضاً الهروب من هذا الشريك (بضغطة زر)
يرى آلان باديو في كتابه الشهير (في مدح الحب) بأن على الحب أن يكون محفوفا بالمخاطر، لا أن
يطمئنك على طريقة الجيوش الامبريالية الحديثة. أن المخاطر كلها سوف تلحق بالآخر، ما دمت أنت قد تدربت جيدا على الحب. متبعاً قوانين الأمان المعاصرة، وحينها لن تجد صعوبة في نبذ الآخر حال أنك وجدته غير مناسب لك.”
ويتساءل: “الحب الآمن؟!!. إنه انتماء للحداثة. فما دمت تملك بوليصة تأمين جيدة وجيش جيد، فأنت ستستمتع بالملذات الشخصية. أما المخاطر فستقع على من يقفون في الطرف الآخر.”
في هذا النمط من العلاقات ما يسميه باديو بالتهديد الآمن. ويشبهه بزواج الصالونات المرتبة. والفرق بينهما بأن هذا النوع يتم تحت غطاء الأهل والأقارب. والثاني تحت مظلة التطبيق(Application). وما يجمع بين النمطين هو الترتيبات المسبقة التي تتفادى الصدفة والعشوائية، وبالتالي تقضي على أي شاعرية محتملة، أما التهديد الثاني لهذا النوع من الحب، فهو إنكار أهميته واعتباره مجرد تنويعات لأشكال المتعة، وهذا النوع من العلاقات غالباً ما يسقط اللوم على الضحايا بأنهم هم من تورطوا، وبالتالي فإن المعاناة تبقى مشكلتهم وحدهم. أما الأمان، فمن نصيب من يمتلك المرونة النفسية والقدرة على التجاوز بسهولة، والمخاطر ستقع فقط على الطرف الأكثر حساسية والأكثر هشاشة.

غياب الجسد وسحر الفيرمونات

تفسّر عالمة الاجتماع (إيفا إيلوز Eva Illouz) في كتابها (حميميات باردة، cold Intimacies). لماذا تبدو العلاقات عبر الانترنت أكثر رومانسية وأكثر عمق.
وتعزو الأمر إلى غياب الجسد خلف الشاشة الذي يفسح المجال لظهور الشخصية الحقيقية بشكل أكبر. من دون التشويش الذي قد يحدثه الحضور الفيزيائي. وهو ما قد يجعل العلاقة أكثر صدقاً وأصالة، لأنها تكون خالية من الحواجز التي يفرضها حضور الجسد الذي قد يقلل التركيز. ويؤثر سلباً على شكل التعبير عن الذات بداعي الخجل أو الارتباك أو الإثارة الحسية.
لكن إيفا ايلوز مع ذلك، تؤكد من زاوية أخرى بأن “المشاعر والعواطف أمر متجذّر في الجسد لا يمكن فصلها عنه، وأن حضوره هو العامل الأساسي لكل الظواهر المرتبطة بالحب. مثل زيادة عدد ضربات القلب، ورعشة اليدين، واحمرار الوجه، والإرتباك والدموع ..الخ. فإن كان الحب عبر الانترنت سوف يلغي كل هذه المظاهر فما الذي سيبقى من الحب إذن؟”.
إن ما تقوم به العلاقات العاطفية عبر الإنترنت، إنما هو تغيير في ترتيب الأولويات. حيث كان سابقاً (في علاقات الواقع) الحضور الجسدي يأتي في المرتبة الأولى بمعنى الانجذاب الأولي، ثم يليه الإعجاب، أما في علاقات الأونلاين، فأصبح الإعجاب هو من يأتي في المرتبة رقم 1
هذا الانجذاب الجسدي أو ما يطلق عليه المختصون (الفيرمونات). والتي يمكن تشبيهها بشفرة خاصة تمتلكها أجسادُنا تتفاعل مع الآخرين وتقرر ــ من دون معرفتنا ــ استعدادنا ورغبتنا في التقرب من هذا الشخص أم لا.
ذلك يفسر ما يحدث في بعض الحالات (أو ربما الكثير منها) عندما نلتقي بالشخص فيزيائياً بعد قطع شوط في العلاقة عبر الانترنت. لنفاجأ بأننا نشعر بعدم الراحة، وأننا غير متحمسين للمضي في هذه العلاقة، رغم أننا كنا معجبين به لأقصى درجة. ولا شأن هنا إن كان هذا الشخص جيداً أم سيئاً. بل لأن ما يحدث هو شيء سحري وغير ملموس يحدث الانجذاب من خلاله أو لا يحدث.

في الواقع ما يجعلنا نلجأ للحب عبر الانترنت أو من خلال تطبيقات المواعدة، هو احتياجنا الأساسي إلى شريك حياة. ذكي وعطوف، مستمع وحكيم ومتفهم. إلا أن ما يحدث هو أننا نختار بناءً على مواصفاته الشكلية أو مزاياه المادية (عمله – مستواه التعليمي- مستواه المادي ..الخ). وإن كانت هذه الصفات مهمة، إلا أن الاختيار المبدئي على أساسها يلغي مفهوم الغيريّة. حيث إن أولى متطلبات الحب هو وجود اثنين. وهذا الثاني/ الآخر، لن يصح أن أحدد مسبقاً صفاته الشكلية، لأننا بهذه الحالة إنما نبحث عن أنفسنا.
باختصار: إن الوقوع في الحب لا يمكن أن يكون مرتباً له مسبقاً. وإلا لن يكون ثمة وقوع.

***

إن وجود اثنين مختلفين ليس شرطاً لوقوع الحب بطبيعة الحال، إنما هو مكون أساسي له. بمعنى وجود الآخر الذي يمتلك رؤيته الخاصة عن الحياة مختلفة عن رؤيتنا، والتي من خلالها يمكننا الغوص بداخله لنرى الحياة بعينه من حين إلى آخر، هذه الغيرية هي التي تمد الحب بأسباب وجوده وتعطيه مبرر استمراره
يعقب آلان باديو على سؤال حول شرارة الحب أو ما يسمى (الحب من النظرة الأولى)،
“ما يهم من الحب ليس قضية اللقاء الأول بكل دهشتها وغرابتها، بل الاستمرارية والسيرورة، لأن الحب منذ تلك اللحظة لم يعد حياة تصنع من منظور واحد بل من منظور اثنين”. ” ذلك ما يجعل من الحب هو مفارقة الاختلاف المتطابق” ولا ينسى ألان باديو أن يعقب على عبارة (جاك لاكان): “الجنس لا يوحّد، بل يفصل”
فيضيف: “كلمة أحبك ليست خدعة لممارسة الجنس”، وأن الحب يخضع لنظام التكرار” قل أحبك، قلها مرة ثانية، قلها بشكل أفضل..”

خديعة حب الذات..!!

في كتابها الثاني (لماذا يجرح الحب). تنتقد (إيفا إيلوز) الهوس الثقافي الحديث بما يسمى (حب الذات). الذي تروج له الثقافة النفسية المعاصرة عبر إنشاء علاقة حميمية مع الذات نفسها، لفكّ ارتباطها الوجودي بالآخرين. تقول: “الهوس الثقافي الحديث بـ”حب الذات” ليس سوى تعبير عن الصعوبة التي تعيشها الذات، لإيجاد مراس للأمن الوجودي والاعتراف”. وترى إيلوز بأن ترويج (حب الذات) بوصفه علاجًا وحمايةً للذات من الآثار السلبية لرفض وتجاهل الآخرين، هي “محاولة فاشلة لحلّ مشكلة أكثر تعقيدًا. فمثل هذه النصيحة تنكر الطبيعة الجوهرية والأساسية لقيمة الذات” من حيث كونها ناتج تفاعل مع ذوات أخرى. وتعبر إيلوز عن هذا: “إن نصيحة حب الذات، تطالبها بأن تخلق ما لا يمكنها خلقه بمفردها، تمامًا كفشل تحميل الذات المسؤولية الكاملة عن إخفاقاتها العاطفية”.
والخلاصة هنا، أن إخفاقات حياتنا العاطفية ليست نتاج ضعف نفسي. والمشكلة في العلاقات العاطفية والإنسانية المعاصرة، لا تكمن في طفولة مختلة، أو نقص في الوعي الذاتي للنفس. وإنما مرده إلى مجموعة من التواترات الاجتماعية والثقافية، والتناقضات التي اجتاحت هيكليات النفس والهويات الحديثة.

خاتمة (1) ( نصف البرتقالة)

أسطورة يونانية اسمها نصف البرتقالة. تقول أن الإنسان لم يكن لا ذكراً ولا أنثى، بل كان هناك نوع آخر يمتلك صفات وأعضاء الذكر والأنثى معاً في جسم واحد. أي جسم بوجهين وأربعة أذرع وأربعة أرجل وأعضاء تناسلية ذكورية وأنثوية. أي أنه إنسان كامل لا ينقصه شيء وليس محتاجاً لأحد، وليس لديه نقطة ضعف.
لم يعجب اعتداد الإنسان بنفسه وبكماله كبير الآلهة زيوس. وقرر شطره إلى نصفين متماثلين. (مثل البرتقالة) فأصبح لكل نصف ذراعان وقدمان ووجه واحد. ونصيبه من الأعضاء التناسلية، والذي سيحدد إن كان سيكون ذكراً أم أنثى.
أشفق الإله أبولو على الإنسان وأراد ترضيته عن هذه القسوة. فقام بنقل الأعضاء التناسلية من الخلف إلى الأمام ليتمكن من الاستمتاع بالجنس، وقام بتعديل الوجه من الوضع المائل إلى الأمام. ليكون الإنسان بحسب الاسطورة شاهداً على هذا الفصل، ويبقى يبحث عن نصفه الآخر الذي كان متحداً معه ليكمل به نقصه.
لم تُرِد الأسطورة شرح كيفية تشكل الإنسان أو تحديد الذكورة والأنوثة. وإنما كانت حكاية رمزية للإشارة إلى كون الإنسان محكوم بأن تبقى لديه حاجات عاطفية غير مشبعة. وأن يظل في حالة بحث دائم عن الشريك( نصف البرتقالة الثاني) الذي سيشبع تلك الحاجات. ولتصبح اللذة الجنسية بمثابة التعويض الذي قدمته الآلهة عن خسارة الإنسان لنصفه الآخر. كلحظة من الاتحاد والاكتمال والمتعة تنسيه الهموم وتعب البحث.

خاتمة (2) أن تحب..هو ما لا تفعله مرتين

لا أحسب أن آلان باديو يريد من هذه العبارة القول بأنك لن تحب سوى مرة واحدة في حياتك. أو أن الحب الحقيقي لا يأتي سوى مرة واحدة. (سيكون ذلك تبديداً مفرطاً لفرص الحياة)
إنما دقة هذه العبارة ومغزاها يكمن في خطئها. في أن الحب هو أن تشعر في كل مرة، وتوقن أنك لن تحب هكذا مرة ثانية.. بأن هذا ما لن تفعله مرتين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع ( للتحميل إضغط على اسم الكتاب)

اترك تعليق