الثقافة المشتركة بين محافظتي درعا والسويداء الرهان الرابح عبر تاريخهما

لوحة للفنان منصور الحناوي

نوار زيدان
….
تتشكل الثقافة بما هي الحصيلة الناتجة عن تفاعل الإنسان مع بيئته من تراكم الخبرات الماديّة والمعنوية لمجمل الأنشطة الإنسانيّة، والخبرة بهذا المعنى تصبح شرطاً لازماً لأيّ تكوينٍ ثقافيّ، فهي ليست فقط ما يُكتسب وما ينتقل من مكانٍ إلى آخر، كما أنها لا تقتصر على كونها مرادفاً للمعرفة أو المهارات الحياتيّة، إنما الخبرة ـ وهذا هو الأهم ــ تعني “موقفاً من المواقف يعيشه الفرد مع الأخرين، فيتأثر به ويؤثر فيه” بتعبير الفيلسوف جون ديوي، وما ينتج عن هذه المواقف يصبح جزءاً من سلوكه، سواء أكانت النتائج معلومات أو مهارات أو اتجاهات، وبمعنى آخر تصبح الخبرة ثقافة، مما يجعل من مفهوم الثقافة المشتركة سلوكاً يتحدد في المواقف التي اتخذها الفرد في علاقته مع الآخر، وبهذا فإن الثقافة المشتركة بين محافظتي درعا والسويداء، هي الناتج الرئيس للعلاقة التي صنعها أبناء المحافظتين بالثقة التي وطدتها خبراتهم.
يحيل مفهوم الثقافة المشتركة إلى توافقٍ عامٍ على قواسم مشتركةٍ تربط مجتمعين متجاوريين أو أكثر، هذا على الأقل أول ما نستحضره في أذهاننا حينما نريد تفكيك هذا المفهوم، ولكن إذا ما سُئل أحدنا: هل توجد قواسم ثقافيّة مشتركة بين محافظتي درعا والسويداء؟ ربما سنحتاج وقتاً لاستدراك الإجابة، وهذا ليس ناتج عن ضعفٍ في الذاكرة، أو عن هامشيّة القواسم أو عدم أهميتها، بل لأنّ هذا السؤال طرق باب اللامفكر فيه، وهذا بدوره يمنح أحد تعريفات الثقافة: “أنها مايتبقى بعد أن يتم نسيان كل شيء”، أهميةً بالغةً، فما يتبقى بعد أن يتمّ نسيان كلّ شيء، هو السلوك الذي يحدد وعي الأفراد وطبيعة العلاقة التي تربطهم مع بعضهم البعض أو تربط مجتمعاتهم، فالقواسم التي غابت عن الذاكرة، هي البديهيات الحاضرة بقوة في سلوك أبناء السهل والجبل.
من خلال سؤالٍ: لماذا لم يتطور التوتر الذي حدث بين محافظتي درعا والسويداء ما بعد 2011؟ ولماذا النزاعات التي حدثت بينهما بقيت محصورة ضمن جهاتٍ وأفراد على خلاف الكثير من المناطق السوريّة ؟ يمكننا أن نقرأ مؤشراً ذا أهميّة بالغة، وهو أنه إذا لم يكن هناك صراع على الوجود بين درعا والسويداء، وليس هناك حالة نفي أو إقصاء للآخر من قبل الطرفين، ولا حتى حالة عداء تاريخية مبيتة، فمن الطبيعي أن لا يتطور التوتر الحاصل، وتبقى النزاعات محصورة ضمن جهاتٍ وأفراد، وتأتي أهمية هذا المؤشر من خلال نفيه لما سبق، في تضمّنه حالة القبول والاعتراف المتبادلة بين الجارتين، والتي تجعل من جميع الإجابات على هذا السؤال تدور في فلك القواسم المشتركة الثقافيّة، مما يعني أنّ هناك اتفاق ضمنيّ على العناصر والمكونات الجامعة بيننا، وبدورها ستقف هذه العناصر والمكونات في وجه أي تصعيد يجرّ المحافظتين إلى ما لا ترغبان به.
إنّ الثقافة المشتركة التي تجمعنا هي اللحظة العقلانية التي يرى من خلالها السهل والجبل مصيرهما المشترك، هذه اللحظة المؤسسة على قبول الاختلاف واحترامه، هي ما يمكن الرّهان عليها مستقبلاً في انتاج مفاهيم الوطنيّة والمواطنة، والتي توجد بالقوة في سياق ثقافة مشتركة أنتجتها إرادة السهل والجبل، والسلوك العام لأبنائهما،
“فعندما خشي أهل القريّا على رزقهم وحصادهم بعد الاحداث المؤسفة في اذار 2020 قام شباب بصرى بتأمين وصولهم وحصد زرعهم دون أن يحترق كما حصل في غير مناطق.”
يعلم كل من أهل السويداء وبصرى أن المخاطر على ارزاقهم وقراهم كبيرة وأنها مهددة كل يوم بالمرتزقة والمارقين والخاطفين، في ظل الظروف المعقدة التي يعيشها السوريون عموما، و أهالي حوران خصوصا سيما وأن الحدود الإدارية للسويداء تلامس مدينة بصرى بل إن مئات المنازل والمزارع لسكان بصرى تقع ضمن مخطط السويداء الإداري.
لذلك فإن
كل دم يراق تنفيذاً لأجندات قوى إقليمية هي جريمة بحق التاريخ وتهديد لسلامة الأجيال.
لا ينبغي لعاقل أن ينساق وراء التجييش والفتنة، وهذه المعركة أولى أن لا تكون بين الأخوة بل ضدّ من يهدد مستقبلهم.
.
نرجو أن يضع “العقّال” من الطرفين – وهم كثر – منهجاً و أن يصيغوا اتفاقاً مبنيّاً على مخاوفهما ووعيهما و مصالحهما المشتركة بضرورة الحفاظ على العلاقة التاريخية بينهم وقطع الطريق على كل استهداف لهذه الجيرة

. لا يخفى على أحد علاقات الاحترام والثقة المتبادلة بين قادة الرأي وأصحاب القرار على الصعيد الشعبي في كلتا المحافظتين، وهذه العلاقات المستتبة تمتد جذورها من تضافر جهود الوطنيين في المحافظتين، ومشاركتهم في الثورة العربية الكبرى، وفي الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، والسنوات العشر الأخيرة رغم مرارتها، أثبتت أن ثقافتهما المشتركة صنعها تاريخٌ لم ولن يتمكن المارقون من القفز فوقه.

اترك تعليق