الفصحى والعاميات: دوائر متداخلة متخارجة (2)

                    

تناولنا في الجزء السابق من هذا المقال الأرضية الأيديولوجية التي يُنظر من خلالها للفروق بين الفصحى والعاميات، وفي هذا الجزء سنتناول المجالات أو الدوائر التي تلتقي فيها الفصحى بالعاميات والدوائر التي تتخارج فيها.

في اللفظ

أنا من الذين يزعمون أن الفصحى التي نعرفها اليوم لم تكن بأية مرحلة من المراحل لهجة محكية، كانت ومنذ ظهورها لغة النخبة (لغة الشعر والمعاهدات والأئمة …) والذين قالوا هذا الكلام قبلي كثر منهم قدماء ومنهم من جيل النهضة ومنهم معاصرون. الفصحى كانت وما زالت تتخارج لفظيًا مع العاميات، سواء العاميات التي كانت سائدة قبل الإسلام، أو في صدره أو التي رافقت الفصحى في مسارها عبر مختلف المراحل التاريخية. فإذا كان الرسول الكريم ( وهو سيد الكلام العربي) لا يلفظ الهمزة، ويلفظ القاف كافًا، ويميل الألف المقصورة فيلفظها بين الألف والياء، ويلفظ التاء المربوطة ألفًا، ويسكن أواخر الكلمات، ويكسر همزة المضارع،  فما الذي بقي من الفصحى المعيارية التي نعرفها اليوم؟؟

بحث مهم للباحث إبراهيم الجبين بعنوان (لغة محمد) يذكر فيه تفاصيل لغة النبي الكريم ويوثق مراجعه (وقد قمت بالتأكد من توثيقه ومراجعه) والبحث جيد التوثيق، يبين لنا هذا البحث لغة النبي ولغة قريش وفي المحصلة فإن ما جاء في البحث يدحض مقولة أن الفصحى التي نعرفها اليوم هي لهجة قريش، فحسب البحث ومراجعه يتبين أن لهجة قريش هي أقرب للهجة أهل الخليج اليوم وفي رأيي هي لهجة العرب الأنباط (اللهجة النبطية) أو لنقل هي أقرب إلى اللهجة النبطية منها إلى الفصحى المعيارية بمعايير اليوم. 

إذن نحن أمام لغة فصحى كانت منذ ظهورها وما زالت لغة النخبة، ولم تكن لغة الشارع أو العامة، ومع ذلك عاشت واستمرت واستطاعت أن تتجاوز أصعب مراحل الموات التي صادفتها (أقصد مرحلة العثمانيين) واستطاعت ومازالت أن تشكل الوعاء الثقافي والمعرفي لجميع الناطقين بالعربية. لكنها رغم تاريخها الطويل ورغم مغالاة بعض الحكام في تاريخ العرب في محاولة فرضها ونشرها، رغم هذا كله لم تستطع الفصحى أن تحل محل العاميات، وبقيت العلاقة بين الفصحى والعامية علاقة تجاور، وإن شئت الدقة هي علاقة كتابية حصرًا، أي أن نظام الكتابة العربي هو الحيز الذي يظهر الفصحى وليس الحيز التداولي المعاشي اليومي. 

علاقة التجاور هذه هي مهددة اليوم، فالفصحى يستند دعاتها، ومعظمهم من المغالين، إلى النظرة الواحدية التي ترفض تجاور أو معايشة العامية والفصحى، وكذلك دعاة العامية وهم لا يقلون تشددًا عن دعاة الفصحى. 

في علم الصرف

قوانين الصرف في الفصحى هي نفسها في أية لهجة من لهجات اليوم، خذ أي فعل ثلاثي صحيح وقم باشتقاق ما تريد منه من المشتقات وقارن بينها وبين ما تقوله بأي عامية ستجد أن المشتقات نفسها، مثلًا فعل كتب: اسم الفاعل منه كاتب ( لا تتغير في اللهجات الشامية والعراقية والخليجية واليمنية والمصرية ولهجات المغرب)، اسم المفعول مكتوب، والمصدر كتابة، واسم المكان مكتب، والمصدر الميمي مكتبة، ونجد أن اسم الآلة هو تركيب مترجم لأن الآلة الكاتبة ترجمت من لغات أخرى وعربت بهذه الطريقة (لم يتم تعريبها قياسيًا) في القياس يجب أن نقول مكتابة أو مكتاب (اسم آلة) لكن تعبير آلة كاتبة هو نفسه في الفصحى والعامية  وكل المشتقات السابقة هي نفسها في الفصحى وكل العاميات على اختلافها، 

تختلف اشتقاقات الأفعال في بعض اللهجات وبشكل خاص المضارع والأمر، أما المبني للمجهول فهو مختلف في كل اللهجات عن الفصحى، لا يوجد  لهجة اليوم تقول كُتِبَ، فالعاميات تنقسم إلى قسمين رئيسين في صيغة المبني للمجهول، أولهما لهجة بلاد الشام والعراق والخليج وبعض لهجات المغرب العربي فحين يريدون البناء للمجهول يضيفون حرفين إلى بداية الفعل هما (الألف والنون) فيقولون (انفتح الباب) ، والقسم الآخر من اللهجات هو اللهجة المصرية وبعض لهجات المغرب العربي  حيث يضاف بدل النون حرف التاء فيقولون ( اتفتح الباب)، وأنا هنا أطالب بإضافة الصيغتين (الصيغة الشامية والصيغة المصرية) إلى صيغ الفصحى واعتمادها من قبل مجمعات اللغة العربية. 

اختلافات الفعل المضارع بين اللهجات  هي قديمة فكما ذكرنا أعلاه أن الرسول الكريم كان يكسر همزة المضارع ، وعلماء اللغة يقولون بوجوب الفتح، كما أن بعض اللهجات تضيف حرف الباء فيقولون (بافتح الباب) بدل أفتح الباب، وبعض اللهجات تضيف حرفي (عم) فيقولون (عم يفتح الباب) أما اختلافات فعل الأمر بين العاميات والفصحى فهي تنحصر في أن صيغ العاميات التي تختلف عن الفصحى يقابلها في الفصيح اسم فعل الأمر وليس فعل الأمر، فنحن نقول (فتاح الباب) وهذه الصيغة تقابل في الفصحى (إذا أهملنا حركة الفاء) فَتَاحِ الباب وهي على وزن فَعَالِ وهذه صيغة اشتقاقية قياسية لاسم فعل الأمر، وبرأيي أن فقهاء اللغة أطلقوا هنا تسمية اسم فعل الأمر ولم يطلقوا تسمية فعل الأمر كي لا يخالفوا قاعدة نحوية تقول : أن فعل الأمر يبنى على ما يجزم به مضارعه، فإذا قلنا أن فتاح فعل أمر وليس اسم فعل، فما هو مضارعه وعلى ماذا جُزم؟ هذا يثبت ما سنقوله بعد قليل من تابعية الصرف للنحو.

إذن الصرف لا يختلف بين الفصحى والعاميات بالمجمل، الذي يختلف هو حركات الأحرف، والصرف هو أساس اللغة وقديمًا قيل كل ما يجري مجرى كلام العرب فهو عربي ، بمعنى أنه حتى الكلمات الوافدة من لغات أخرى، إذا قبلت بنية الكلمة أن تُصرف على موازين الصرف العربي فهي عربية، فما بالنا بأن كل لهجاتنا لا تختلف عن موازين الصرف العربي، ومع ذلك ينظر إليها أنها لا تنتمي للعربية؟ 

في النحو

علم النحو ينظر في محل الكلمة الإعرابي وحركة آخرها، ولأن العرب كانوا وما زالوا يسكنون آواخر الكلام لذلك هو علم لم يستطع أن يفرض سيطرته على المنطوق من اللغة، إنما كان مسيطرًا على المكتوب منها (مع أن العرب حتى الآن لا يضعون الحركات أثناء الكتابة، لكن هناك ما يشبه العرف العام بوجوب رسم الحركات حين لا يأمن اللبس، من هنا نجد أن علم النحو هو علم لا علاقة له بالعاميات بل لا علاقة له بالمحكي، فهو علم إجرائي يستخدم بشكل بعدي، بمعنى يتم كتابة النص أولًا ثم بعد ذلك تتم مراجعته ليوافق قواعد النحو، على حين علم الصرف هو إجراء قبلي فهو أساس بناء الكلام العربي. فالفصحى تلتقي إلى حد قريب جدًا من التطابق  مع العاميات في علم الصرف، لكنها تختلف وتبتعد عنها في علم النحو. 

في الكتابة

لنؤكد مجددًا أن اللغة غير كتابتها، كما أنها غير قواعدها، فاللغة سابقة لقواعدها وسابقة لنظام الكتابة، وقد وضع نظام الكتابة العربي بعد أن شهد العرب عدة نماذج للخطوط، كالخط النبطي والمسند اليمني وغيرهما، وفي رأيي أن نظام الكتابة العربي قد جاء ليراعي العاميات وينقلها خطوة باتجاه الفصحى، وهذا كلام قد يحتاج منا إلى الكثير من التوضيح، فكيف يمكن لنا أن نقول أن نظام كتابة للفصحى جاء ليراعي العاميات؟ سنوضح بعض النقاط المهمة بما يسمح لنا المجال هنا:

-فيما يخص الفروق بين العاميات فيما بينها من جهة وبين العاميات والفصحى من جهة أخرى يمكن لنا ان نحصر هذه الفروق في عدة أحرف هي التي يتغير لفظها بين اللهجات وهي التي ترسم بطريقة يراها بعض المتسرعين (وقد كنت منهم) إنها طريقة غير مبررة لكتابة هذه الأحرف بالشكل المعتمد في نظام الكتابة، وهذه المواقع تنحصر في:

-التاء المربوطة وتمييزها عن التاء المبسوطة والهاء: العرب كانوا وما زالوا لا يلفظون التاء المربوطة تاءً في كلامهم الملفوظ، فتنقسم لهجاتهم إلى قسمين رئيسين في لفظها، منهم من يلفظها بالطريقة المصرية فيقول( مكتبا) عندما يريد قول مكتبة، ومنهم من يلفظها على الطريقة الشامية فيقول مكتبي ، أي التاء المربوطة لها لهجتان اما الف واما ياء، لكن في اللهجتين عندما تلتحق فيها ياء المتكلم تصبح تاء فالجميع يقولون مكتبتي ، وهنا برأيي أن الأئمة اقترحوا واعتمدوا التاء المربوطة لمراعاة للهجات، فتكتب تاء مربوطة لتمييزها عن التاء المبسوطة وعن الهاء وتلفظ حسب لهجة القارئ واللهجتان فصيحتان، والرسول حسب الكثير من المصادر كان يلفظ التاء المربوطة الفًا.

الألف المقصورة وتمييزها عن الياء والألف الممدودة: مما أثر عن النبي الكريم أنه كان يُميل لفظ الألف في الكلمات التي اعتمد علماء اللغة أنها تنتهي بألف مقصورة، والإمالة هنا هي لفظ بين الألف والياء، فكلمة مصطفى تلفظ ألفها بين الألف الصريحة والياء الصريحة ، وهذه هي الإمالة، فلا هي ألف ولا هي ياء هي بينهما، ومن هنا جاء رسم الألف المقصورة بهذه الطريقة، وإلا فلا معنى لكتابة الألف المقصورة بهذه الطريقة، لكن تثبيت كتابتها بهذا الشكل هو إشارة واضحة للقارئ أنك تستطيع لفظها حسب لهجتك. 

-الهمزة : العرب ومنهم قريش كانوا يتخففون من لفظ الهمزة فيلفظونها كما نلفظها الآن بكل عامياتنا، فأية عامية من عاميات العرب اليوم أهلها يقولون لولو، وسايل، ومايل، وبير، وقرا، وطرا طاري، عندما يريدون أن يقولوا لؤلؤ وسائل، ومائل، وبئر، وطرأ طارئ الخ.. وهذا سبب اعتماد قاعدة كتابة الهمزة المتوسطة أو المتطرفة، والمشكلة بالحقيقة هنا هي في الحالات الخاصة للهمزة المتوسطة أو حالة الهمزة المتطرفة بعد الحرف الساكن, والمشكلة بالأساس أتت من اختلاف اللهجات الشديد في لفظ هذا النوع من الهمزات ، فكلمة عباءة وهمزتها هي من الحالات الخاصة كان فيها و ما زال عند بعض قبائل الجزيرة العربية عدة لهجات، فيقولون عباية وعباوة وعبانة على حين كل اللهجات كانت تقول لولو وكل اللهجات كانت تقول سايل. برأيي أن نظام الكتابة العربي بطريقته المتبعة هو نظام قام أساسًا على احترام اللهجات واختلافها، فكل ما هو مختلف بوضوح بين اللهجات أوجدوا له طريقة كتابة بحيث تلفظ بالفصحى بطريقة واضحة وتلفظ بالعاميات كل حسب عاميته، وهذا يجعلنا نتمسك أكثر بنظام الكتابة لأنه نظام تجاوز العاميات والفصحى وحققهما معًا، وهنا يجب التأكيد على هجر الكتابة بالعامية لأن أية عامية محققة سلفًا بنظام الكتابة الفصيح لكن الكتابة العامية لا تحقق إلا لهجتها فقط وهذا فقر وأحادية معكوسة ونبذ للتعدد والاختلاف. 

هذه أهم الدوائر التي تتداخل وتتخارج فيها الفصحى مع العاميات، وربما وجب هنا أن نعود ونؤكد أن نظام الصرف العربي هو نظام جاذب على عكس نظام النحو، فالصرف وقوانينه يبقى ثابتًا في الفصحى واللهجات على اختلافها، لكن النحو يسعى دومًا وهذا ديدنه لتثبيت نمط واحد ونفي واستبعاد باقي الأنماط اللغوية، والعلاقة بين النحو والصرف هي علاقة تبعية عند المغالين وأصحاب النظرة الواحدية، فهم يرون تابعية الصرف للنحو، لكن في الحقيقة يجب أن تكون الرؤية معكوسة، أي يجب أن يكون النحو تابعًا للصرف، فالصرف هو أساس اللغة وأساس البناء اللغوي.

والتأكيد الثاني الذي لا يقل أهمية عن سابقه هو نظام الكتابة، فنظام الكتابة العربي نظام يحترم الاختلاف بين اللهجات كما بينا، واعتماده في الكتابة لا يلغي اللهجات فيمكنك أن تقرأ بلهجتك وبالفصحى معًا، على حين اعتماد الكتابة استنادًا للهجة يلغي الفصحى ويلغي باقي اللهجات.  

اترك تعليق