(الفصول الأربعة نموذجا)
يحكى أنه في لندن، وفي فترة تعود إلى العصر الفيكتوري، كانت تسود شوارع المدينة أعمال شغبٍ احتجاجاً على النهايات المؤلمة التي كانت تُختم بها عروض مسرحيات تشارلز ديكنز، وتستمر هذه الأعمال من تكسير وإشعال نيران إلى أن يعمدَ الكاتبُ تغييرَ خاتمة المسرحية لإخماد شعلة غضب الجمهور الثائر.
قد يبدو هذا الحدث للناظر من بعيد أنه تعبير عن فشل الراوي في تلبية رغبات الجمهور، لكن لو أمعنا النظر قليلاً لوقعنا على حجم التأثير الذي كانت تحدثه هذه الأعمال في نفوس المتلقين، إذ كانت تدفع بهم للخروج في مظاهراتٍ ليس احتجاجاً على غلاء الأسعار أو قراراتِ الحكومة المجحفة، وإنما احتجاجا على خاتمة عمل أدبي هو ثمرة خيال كاتبه.
وإذا قفزنا في الزمن قليلاً إلى الأمام لنلقي نظرةً على القرن العشرين، لطالعنا بادئ الأمر أحدُ أهمّ الأحداث التي هزت العالم على مستوى الثورات الشعبية، أقصد هنا الثورة البلشفية التي أطاحت بحكم القياصرة الروس، ومهدت الطريق لنشوء إمبراطورية إن جاز التعبير سيكون لها دور مفصلي في جميع الأحداث العالميّة على امتداد ذلك القرن؛ ولو تغاضينا عن هول هذا الحدث لوهلةٍ وشرعنا نبحث في أسبابه الأولى، لوجدنا ثلّة من الفرسان القدماء هم من زرعوا البذور الأولى لهذه الثورة، ومهدوا الطريق للماركسيين والبلاشفة لحمل شعلتها والذهاب بعيداً، هؤلاء هم أدباء روسيا العظام أمثال دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف، والذين خرجوا جميعاً من “معطف غوغول” على حد تعبير دوستويفسكي، ومشوا على خطاه ناقلين الفرد العادي الذي يشكل عموم الشعب الروسي، من مجرد شخصٍ عاديٍ قابعٍ في الظل إلى بطلٍ محوريّ في أعمالهم، هذا الأسلوب هو الذي وضع اللبنة الأولى في صرح واحدة من أعظم ثورات العصر الحديث.

أردت بهذه المقدمة الطويلة أنّ أؤكد على الدور الرياديّ الذي يضطلع به فنُّ الرواية والدراما في إحداث تغييرات هائلة على المستوى المجتمعي، وهنا نترك كل ذلك لنعيد النظر في واقعنا.
ربما لم يحظَ فنّ الرواية لدينا في أيّة حقبة كانت بالازدهار الذي لقيه في دول أوروبا وأمريكا، أو حتى دول عالم ثالثية كدول أمريكا اللاتينية، لكن لا أحد ينكر الحظوة التي لقيتها الدراما السورية خصوصاّ مع بداية عصر الفضائيات على مستوى الشعوب الناطقة بالعربية، فما الدور الذي أدّته في علاج قضايا المجتمع؟ ولنذهب إلى قضية بعينها: قضية المرأة مثلا؟
ربما تقودنا الإجابة على هذا السؤال إلى إجراء تحقيب بسيط للمراحل التي شهدتها الدراما السورية، كي نقع على مرحلتين أساسيتين: مرحلة ما قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا كانت الأعمال الدرامية موجهة على نحو خاص للمتلقي السوري، إذ كانت أكثر ارتباطاً بهمومه ومشاكله، فتعرضت لها بالنقد والتحليل والمعالجة، وإن لم يكن على نحو كامل كما سيأتي ذكره، بينما المرحلة الثانية بدأت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وما تزامن معها من أحداث شهدها الواقع السوري بدءاً بالثورة وانتهاء بالحرب الأهلية، هذه الأحداث التي خلقت واقعاً سريالياً عبثياً ترافق مع انتشار وسائل التواصل التي انتهكت خصوصية المجتمعات والأفراد، الأمر الذي انعكس على الدراما بحيث بدأت تبث رسائل مغرقة في السطحية همّها الأساسيّ، محاولة التمثّل بمفاهيم العصر ومواكبة آخر صرعاته دون أيّ اعتبار للنقد والتحليل ومعالجة القضايا الراهنة.
عن دور الدراما
نقاش هذه المسألة يقودنا بعيداً عن موضوع مقالنا، لكن لنستغلَّ مرورنا على هذه المحطة ونشير إلى نقطة بسيطة قد تكون بمثابة جواب لسؤال طفر للتو: ما الذي جعل الدراما تتخلى عن دورها النقدي العميق لصالح دور آخر يبدو هزلياّ وبلا معنى؟
يمكن شرح هذا التحول بمثال بسيط: تخيل أن اجتماعاً مغلقاً ضمَّ أفراد أسرة ما لمناقشة بعض القضايا الداخلية أو حلّ نزاع قائم، ما الذي سيحدث؟ سيعمد أفراد الأسرة إلى طرح المسائل بصراحة ووضوح وبشكلٍ مباشرٍ، لكن ماذا لو ضمّ الاجتماع عدداً من الوسطاء الخارجيين، ما الذي سيحدث حينها؟ سيصبح الطرح أكثر مواربةً وبأسلوب سطحيّ منمق، بل قد تعمد الزوجة إلى إظهار الصورة المعاكسة لتجنب الإحساس بالخزي، فيما لو علمت إحدى زوجات الحضور بحقيقة الأمر.
يشبه هذا أيضاً شخصاً دخل الحمام ليغتسل، وما أن خلع ملابسه حتى فتح أحدهم الباب بغتة، سنرى هذا الشخص يلجأ إلى تغطية جسمه بأي شيء يجده أمامه تاركاً غسل أدرانه.
لست أعرض ذلك لأبرر ما تفعله الدراما اليوم، فالواقع الذي نعيشه الآن لا ينطبق في مضمونه على هذا المثل، إلا أن تصورنا له على هذا النحو، سيجعل من السلوك ردّة فعلٍ طبيعية على تصورٍ خاطئ، إذ ما نراه مثالياً ونموذجياً في النهاية ليس كما نعتقد، فلكل منا عيوبه التي عليه أن يشتغل بها، وتصور الآخر على أنه المثال الكامل هو الذي يدفع بنا للتقنّع بردائه مغفلين ما فيه من فتق ورتق.
لنقف عند هذه النقطة ونعد مرة أخرى لتفحص الدراما السورية في حقبتها الأولى: ما الذي فعلته هذه الدراما لمعالجة قضايا المرأة؟
ما الذي فعلته هذه الدراما لمعالجة قضايا المرأة؟
كما أشرنا آنفا لم يفت الدراما في تلك الحقبة أن تعالج هذه القضية، والحقيقة أنها تناولتها من زوايا عدّة، على سبيل المثال لا الحصر، عرضت إحدى حلقات مسلسل (سيرة الحب) لمشكلة جرائم الشرف، فتحدثت عن فتاة تعرّضت للاغتصاب من شخص كانت تحبّه، وهنا تحكي القصة المعاناة التي عاشتها هذه الفتاة القاصر في ظلّ مجتمع يُجرّم الضحية ويبرّئ الجاني، هذه المعاناة التي انتهت بحبس الفتاة من قبل والدها وأخيها الأكبر في غرفة مظلمة داخل المنزل، ثم قتلها على يد أخيها الأصغر لغسل العار، ورغم ما اتسمت به هذه الحلقة من الواقعية في الطرح وإثارة عواطف المشاهد، إلا أنها اكتفت بالعرض دون طرح حلّ ممكن أو الإشارة إليه.
اقرأ أيضا تاء التانيث الموؤودة
في مشهد آخر من مسلسل (عصي الدمع) للمخرج “حاتم علي” والكاتبة “دلع الرحبي”، عمدت المحامية “رياض” إلى تقديم بلاغٍ للشرطة ورفع ادعاء شخصيّ لدى تعرّضها لتحرش لفظي من قبل أحد العابثين في الشارع، هنا يمكن الحديث عن سلوك نموذجي حرضت عليه هذه السيدة، قد يمثّل حلاً لما تتعرض له النساء من عنف لفظي بشكل يومي، وقد لجأت إلى هذا السلوك رغم استنكار زميلها المحامي واعتبار ما فعلته أشبه بفضيحة، وهذه لفتة جميلة لطريقة التفكير السائدة التي تعرقل المرأة عند المطالبة بحقوقها، لكن مع ذلك لم يخرج هذا المسلسل من تقرير الصورة النمطية الخاطئة للمرأة (المسترجلة) عند الحديث عن سيدة خرقت العرف وتمردت على السائد، فمجرد إعطاء اسم ذكوريّ لها يشي بتكريس هذه النظرة.

وهنا يظهر سؤال؟ كيف يمكن للدراما أن تطرح حلاً في هذه القضايا أو تمهد له؟ أو بالأحرى هل هذا من واجباتها وهل باستطاعتها فعل ذلك؟
هنا نعرض لنموذج أنا شخصياً أفضله وأعتقد أننا لم نشهد مثيلاً له حتى الآن: مسلسل (الفصول الأربعة).
هذا المسلسل الممتد في أكثر من 70 حلقة مقسمة على جزأين اهتمَّ بمعالجة كثيرٍ من قضايا المجتمع بطريقةٍ مبتكرةٍ، فبدلاً من عرض القضية بأسلوب الانغماس في التفاصيل إلى حدّ الغرق والضياع، عمد القائمون على هذا العمل إلى معالجة القضايا بتقديم حالة نموذجية تتمثل في أسرة شامية تعيش بود وسلام، يحبّ أفرادها بعضهم بعضاً، وفي الوقت نفسه لديهم همومهم ومشاكلهم ومخاوفهم وتحدياتهم اليومية التي هي بنت الواقع وتواجه كلّ أسرة في المجتمع، وهنا تظهر ميزة هذا العمل بعرضه الحالة النموذجية بطريقة واقعية جعلتها أكثر قبولاً وأعمق أثراً.
نجد مثلا في هذا المسلسل مثال الأب الحنون الذي كرّس حياته لأسرته، فأحبّ زوجته واعتنى ببناته الخمس أيما اعتناء، حتى كبرن وسلكن طريقهن في الحياة، فثلاثة منهنّ تزوجّن أما “ناديا” وهي البنت الصغرى، فكان لها توجه آخر، فبعد إنهاء دراستها كرّست جلّ وقتها للبحث الاجتماعي، وفي سبيل ذلك امتهنت العديد من المهن غير التقليدية، إحداها العمل كسائقة تكسي عمومي، الأمر الذي لم يلقَ صدىً أو معاندةً من قبل والديها.
في مقابل هذا الطرح النموذجي كان هناك طرح موازٍ واقعيٌّ، تمثل في حياة الأخت الكبرى فاتن التي تزوجت في سن مبكرة قبل أن تكمل دراستها من رجل غنيّ يفوقها سناً بكثير، وذلك بترغيب من عمتها المحبة للجاه والمال وعدم ممانعة من والديها كما جرت العادة، وحالة أخرى واقعية هي حالة “ماجدة” التي أنهت دراستها وحصلت على وظيفة وتزوجت من رجل موظف مثلها من ذوي الدخل المحدود، ورغم ذلك نجدها تحمل وحدها أعباء الأعمال المنزلية دون مساعدة من زوجها.
أما الأخت الثالثة “شادية” فقد اختارت الزواج من رجل فقيرٍ معدمٍ أحبّها بشدّة وبادلته الشعور، ومرة أخرى باستنكار من قبل العمة وقبول واحترام الأهل لخيار ابنتهم، فنجدها تعيش معه حياة بسيطة رضيّة سعيدة وحالمة.

رغم كون المسلسل في إطاره العام عرض شيئاّ من حلّ بتقديمه حالة هذه الأسرة وثقافتها الفريدة نوعاً ما، إلّا أنه أيضاّ لم يغفل في جزئياته معالجة قضايا بعينها، فإلى جانب عرضه لظاهرة التفاوت الطبقي في غير ما حلقةٍ نجده يخصص إحدى حلقات الجزء الثاني بعنوان (للنساء فقط) لمعالجة مشكلة العنف ضد المرأة.
في هذه الحلقة تظهر نماذج عدّة لنساء تعرّضن للعنف الجسدي من قبل أزواجهن، وصل حداً من الشدة والفظاعة بحيث دفع بإحداهن لرفع ادعاءٍ شخصيّ بحقّ زوجها، الأمر الذي لقي ترحيب عادل المحامي زوج ليلى المتوفاة، وكذلك ناديا الباحثة الاجتماعية والتي اهتمت بمتابعة الحالة مع صهرها، إلّا أنّ الأمر انتهى بسحب الادعاء من قبل الزوجة عندما اكتشفت بالفحص الطبي وجود مشكلة صحية أخرى لديها كانت ستحمل تداعيات خطيرة لو استمرت، وما كان لها أن تكتشفها لو لم يقم زوجها بضربها دافعا إياها لإجراء الفحص، فربطت هذا بذاك وسحبت الادعاء ممتنةً له.
لم تقف الحلقة عند هذا الحدّ بل استمرت الأحداث لتعرض ناديا وعادل داخلين في نقاش محتدم وصف فيه عادل المرأة بأنها عدوة نفسها كونها تتغاضى عن حقوقها المنصوص عليها في القانون، وهنا قدم لناديا كتيباً بعنوان قانون الأحوال الشخصية.
أخذت ناديا الكتاب لتقرأه، ثم تُفجع بالكمّ الهائل من الظلم والإجحاف بحق المرأة الذي ينطوي عليه هذا القانون، فقصدت المكتبة طالبة مجموعة نسخ قامت بإهدائها لجميع نساء العائلة، وشدّدت عليهن لقراءته واصفةً رجال العائلة بأنهم عنيفون بدءاً بوالدها ومروراً بصهرها عادل وسائر أزواج أخواتها، الأمر الذي أثار تعجب الأخوات والأم والعمة، لكن ما أن قرأن الكُتيب حتى وقفن على حقيقة الأمر، وأثرن موجة من التساؤلات في وجه أزواجهن متهماتٍ إياهم بالعنف والتخلف والرجعية لقبولهم هذا القانون، حتى نارا الصغيرة ابنة عادل هاجمت أباها بالطريقة ذاتها، ولم يشفع له عندها ما أطلعها عليه من مقالاتٍ نشرها بنفسه في الصحف الرسمية، تتصدى لهذا الموضوع وتطالب بتغيير القانون.
وتستمر الأحداث لتعرض حملةَ مقاطعةٍ نفذتها نساء العائلة بحق أزواجهن، وانتهت بإصدار عفوٍ بحقهم الواحد تلو الآخر، آخرهم كان عادل الذي ظهر في نهاية الحلقة وهو يتحدث على نحو فردي مع ابنته، وهنا عبرت الابنة عن رضاها عن محاولات والدها وكشفت رغبتها في أن تعالج هذا الموضوع بنفسها عندما تكبر وتصبح محامية، وهنا إشارة من طرف خفي إلى حقيقة مهمة تغيب عادة عن أذهان الكثيرين، وهي: أن القضايا المرتبطة بالمرأة لن يحملها حقاً إلّا النساءُ أنفسهن برأي صناع العمل
لدي رغبة شديدة حقا في أن أرى الدراما السورية مرة أخرى تعرض نماذجاً من هذا القبيل، وتقدم أعمالاً فيها من العمق في النقد والتحليل ما يناسب عمق هذه القضايا وأهميتها، وإن لم ينجح الفصول الأربعة في إحداث تغيير حقيقي بصدد قضية بعينها فذلك عائد لسببين: الأول كونه عملاً فريداً غير قادر على إحداث الأثر وحيداً، والثاني أنه تصدى لجملة قضايا مسلطاً الضوء عليها جميعاً ولم يخصّ بالطرح قضية بعينها، لكنّ الأمل ما زال قائماً بأعمال مستقبلية تتناول هذه المشاكل كلّ على حِدة، فتتبع جذورها وتغوص في أعماقها.