خارج كورسيه الجمال

يستثني علم الجمال المجالَ الطبيعي من مجالات النقد الفني، ذلك أنه ليس ثمرة الإبداع الفني أو الابتكار. أي أن موجودات الطبيعة التي ليست من صنع الإبداع الإنساني، لا تكتسب قيمةً فنيةً إلا عندما يُنظر إليها عبر فنٍّ من الفنون أبدعته عقليةٌ أو تقنيةٌ ما. حسبما يعبّر شارل لالو.

تقترح هذه النظرة أن موجوداً طبيعياً ما لا يمكن نقده والحكم عليه من منظور معياري للجمال، فالزهرة أو العصفور جميل بما يثيره في النفس من ارتياح أو سرور، أي بالتلقي الحسي البسيط لجماله. والحال هذه، ألم يكن يجدر بالجمال الجسدي أن يظل معطىً محسوساً بصورة تلقائية؟ من أين ظهرت إذاً معايير الجمال؟

ارتباط الجسد الأنثوي بالجمال منذ القدم جعل النساء يجدن أنفسهن أمام هذه المسألة دوماً. سيما وأن المرأة عانت القمع من المشاركة في المجال العام أمداً طويلاً. وكثيراً ما اختزل دورها في المجتمع بما يقدمه هذا الجسد من خدمات. فوجدت نفسها في موقع ضيق يصير فيه جسدها رأسمالها الوحيد. ولا تملك معه إلا السلطة الخفية (المرذولة) لهذا الجسد، الغواية والجمال. التي عليها في الوقت نفسه أن تحافظ عليها تحت السيطرة (كيلا تجرّ على المجتمع الخراب). ضمن هذه البيئة الغنية بالمفارقات، تُكيّف النساء أجسادهن وفقاً للصورة اللائقة التي يرسمها لهن المجتمع، كي تحصلن على رضا واستحسان الآخرين. 

 إن معايير الجمال التي عرفناها في عصور مختلفة تضع الجسد في مقابل العمل المُنتَج. إنها تروض الجسد الطبيعي وتشذّبه وتقولبه لتنحت منه الجسد الاجتماعي الذي يليق بالتصور العام للثقافة السائدة. وتفرض النموذج على أجساد وذوات الأفراد بما يتّسق مع النظام. هكذا لا يخسر الفرد حريته الفطرية وحسب، إنما يُسلب كذلك حرية تشكيله لذاته وحرية تعبيراتها ومن ضمنها اختيار المظهر.

المسطرة المائعة

إن كان ثمةَ ثابت في معايير الجمال، فهو قدرة تلك المعايير على التبّدل والتغيّر. وكأن قواعد الجمال تعود لتكتسب منه صفة اللاانضباط.

إن ألقينا نظرة على ما اعتبر جميلاً في أزمان مختلفة فقد تدهشنا المتناقضات. الجسم الممتلئ والبشرة الشاحبة كانت في ما مضى دلالةً على الانتماء لطبقة اجتماعية تستطيع فيها المرأة أن تأكل جيداً ولا تضطر للخروج من المنزل. وقد ظلّ الجسم المكتنز والوجه المستدير الشبيه بوجوه الأطفال، دليلاً على الأنوثة أمداً طويلاً قبل أن تُعَمِّم نساءُ المصانع العاملات نموذجاً أكثر رشاقة وأقلّ نعومة. ثم تشعّبت التنويعات كثيراً وازداد التغيّر جرأةً مع ظهور السينما ونجماتها بوجناتهن المرفوعة والناعمة، وشعورهنّ القصيرةِ والطويلةِ والمائجةِ والمنسدلة. ثم عاد الجسم المثالي عن نحول السبعينات الذي يمسح التكويرات نحو مظهر رياضيّ أكثر امتلاءً في أيامنا هذه. واكتسبت البشرة لوناً مُسمَرّاً مرتبطاً بشمس منتجعات الأثرياء.

بالتأمّل قليلاً في معايير الجمال عبر التاريخ نجد بأنها كانت على طول الخط منتجاً ثقافياً لزمنها لا ثابتاً نابعاً من حدس بديهي مشترك. فهي إما أن تكون ميزة مرتبطة بالطبقة الاجتماعية، أو أن تكون على صورة شخصية سياسية واجتماعية مهمة (كالملكة إليزابيث الأولى أو السلطانة كوسيم)، أو أن تكون مرآةً لحدث مهم كالحركة الثورية للستينات، كان ذلك في الغرب. لكن الشرق لم يختلف عن ذلك أيضاً، فقد عمم الشرق معايير المستعمر كما يتماهى العبد مع المستبد.

إن معايير الجمال هذه لا تظل شأناً تفضيلياً بريئاً عندما تنبع من رؤية فنتازية ميسوجينية(2) (ذات نزعة كارهة للنساء ومتحيزة ضدهن)، حيث نجد الجسدَ الجميلَ مثلاً هو جسدٌ مرتبطٌ بالخصوبة. لكن دون أن يكتسب علامات تدل على وظيفته الإنجابية، كالترهل أو تمدد الجلد المرتبط بتبعات الحمل والولادة. وفي مراحل كثيرة كان على الجسد ألا يقدم أي مظهرٍ لجنسانيته. نجد ذلك في تفضيل الأجساد النحيلة غير المُشعِرة التي توحي بطفولة ما. النساء العربيات وجدن أنفسهن مُطالبات بجسم ممتلئ ذي تكويرات على صورة المرأة الشهوانية في المخيال الشرقي القديم. الذي يرسم جمالها ويحطّ من قدره في آن. والمشتركُ في كل هذا هو العنصر الأثير لعدم التقدم في السن. 

إزميل النموذج 

اكتسبت مسألة الجمال بعداً أكثر خطراً عندما دخلت صناعة التجميل كفاعل رئيسي في تقرير شكل نموذج الجمال لكل جيل. ووجدت طريقها إلى نقاط ضعف الثقة في نفوس النساء منذ مجلات الموضة إلى التلفزيون حتى إنستغرام يومنا هذا. وقد رفعت عيار التحدي حدّ إنتاج صورةٍ غير معقولةٍ وغير ممكنةٍ للجسد الأنثوي المثالي، إنه الآن صورة فانتازية وغير إنسانية.

تكمن المفارقة في ازدياد شيوع النموذج أكثر فأكثر بالتزامن مع زيادة الفردانية في عصرنا الحالي، وكأن الوحدة التي يجعلنا نمط الحياة نعيشها، تدفعنا للمزيد من محاولة الحصول على التقدير الاجتماعي. تأتي خدمات طب التجميل بما فيها من خيارات جراحية وغير جراحية لتقدم حلولاً فيزيقية للمشكلة. هنا تجد الفرد يتخلى عن فرادته، عن جسده كمساحة للتعبير عن الذات وصوغها، ويسلمه لإزميل التجميل كي يحفر الجسد و(يصلح ما فيه من عيوب ونشاز) ويجعله لائقاً بالتصور المشتهى. 

حول الجمال مجدداً

بالعودة لما صِيغَ من تعاريفٍ للجمال، نجد أنه ما يبعث السرور في النفس. هو الفضيلة، وهو التناسق والانسجام بين الباطن والظاهر، وهو الشعور باللذة الذي يستند على اللعب الحر بين الخيال والذهن. على ذلك يبدو الجمال تجربة تلقائية مُحببَّة، فمتى فقدنا قدرتنا على رؤية الجمال؟! 

إن الارتباط الثقافي عميق الجذور بين الأنوثة والجمال، يجعل منه ثيمةً عظيمة الأثر في علاقة المرأة بأنوثتها وتقديرها لذاتها وصورتها عن نفسها، الأهمية التي يوليها له المجتمع كذلك يجعل الأمهات الحريصات على تجهيز أبنائهن للانخراط في المجتمع، يعززن لدى بناتهن ضرورة أن يكنّ جميلات. لكن أي مساحة تجدها هاته الشابات لاكتشاف وحب أجسادهن الفريدة وذواتهن فيما يغيِّم النموذجُ الموحَّدُ والدقيق بشكلٍ قاسٍ رؤيتهن لأنفسهن.

ربما تنتبه النساء يوماً لوهمية النموذج ومقاييسه الخالية من المعنى؛ ويحتضنّ أنوثتهن على الصورةِ التي يُحبِبن رسمها؛ وربما يربّين الطفلات على اكتشاف أجسادهن بعينٍ حرة؛ والاحتفاء بفرادتهن، وأنوثتهن، جنسانيتهن، أمومتهن، وجمالهن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليق