المياه في “جبل حوران” .. آثار خالدة لحضارات متعاقبة

سباق قوارب في قرية امتان مطلع الثلاثينات

نموذج للبرك في حوران


ضياء الصحناوي

تقول الأسطورة:
بعد اندحار الرومان، وحصارها من قبل عشائر غازية. بقيت مدينة شهبا صامدة لعدة شهور دون أن يستطيع المحاصرون معرفة السر وراء صمود الأهالي داخل الأسوار، حتى حط سرب من الحمام المهاجر عند زاوية أحد الأسوار لشرب الماء، فطلب قائد الجيش المحاصر من جنوده الحفر في المكان الذي شربت منه الطيور، واكتشف الأقنية البازلتية التي تنقل المياه إلى داخل السور، وتوزعه على المنازل. وهكذا استسلم السكان، وتعرضت المدينة للتدمير ( 4). /

فمن معبد ربة المياه الروماني في “قنوات”، إلى بركة “السورية” التي تحولت إلى ساحة للعزاء في القرن الماضي، وصولاً إلى نبع “عرى” الأثر الخالد الذي تركته الأميرة اسمهان “أمال الأطرش”، يعيش أهالي محافظة السويداء اليوم بتقنية التنقيط الإجباري والعودة إلى ما تركته لهم الحضارات القديمة ؛ من خزانات وبرك واقنية نحتت في الصخر ، وجعلت من الحياة ممكنة في هذه المنطقة الجبلية الوعرة قبل مئات السنين
أما اليوم ، يعاني اهالي السويداء من شح شديد في المياه ، دفعهم خلال السنوات الاخيرة إلى شراء صهاريج الماء بمبالغ كبيرة تشكل عبئا جديدا يضاف إلى الأعباء المعيشية الكثيرة.
…..
قديماً:
نظرا لعدم وجود أنهار أو ينابيع دائمة، لجأ سكان منطقة حوران عبر تاريخهم إلى البرك والمطوخ كخزانات كبيرة لسد احتياجاتهم من المياه . وكان جر الماء إلى هذه الخزانات الكبيرة من الأودية؛ عملاً استثنائيا بامتياز ، حيث دأب السكان- ومن خلال تقنيات هندسية دقيقة و محكمة-إلى صنع الأقنية الحجرية الخاصة والتي تمتد لعدة كيلومترات، لملء البرك والمطوخ ( التي قامت الأيدي العابثة في الزمن الحديث بتخريبها وتدمير آيات من الإبداع الإنساني كما حصل مع بركة”السورية”، و”حمامات شهبا”1. )
حيث تميزت غالبية القرى والبلدات الكبرى في جبل حوران بالبرك الكبيرة المتقنة الصنع،والتي ما زال معظمها موجوداً حتى الآن، لكن غالبيتها اليوم فارغة، بعد أن أهملت الأقنية، وحرفت مجاري الوديان، وغارت المياه في الأرض دون أن يستفيد منها أحد.
المعالم المائية الأثرية في “السويداء”
إن أحد أجمل المواقع الأثرية المائية في سوريا هو معبد ربة المياه في قنوات( 7 كم شرق مدينة السويداء) الذي يقع إلى الجنوب من مسرح قنوات ، وإلى الشرق من سور البلدة القديمة، وعلى الضفة الشرقية لوادي قنوات “وادي الغار” و يعود تاريخ بنائه إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي حيث بني من الحجارة البازلتية وفق مخطط معماري متميز تتدفق من حوله المياه، ويبقى مليئاً بالمياه طوال السنة، وقد كان مخصصاً لعبادة آلهة المياه “نمغايوم”، وتصل المياه إليه من نبع مجاور بواسطة أقنية حجرية مغطاة ببلاطات، تقوم بتغذية المعبد ثم تتابع سيرها باتجاه المسرح الصغير (3). حيث تتجمع في خزان المياه الكبير الواقع إلى الجنوب الغربي من السرايا ، و تأتيه المياه من قرية “سيع”، ومنه تجر إلى الحمامات عبر أقنية بازلتية متقنة الصنع، مستخدمين نظرية الأواني المستطرقة.
أما مدينة السويداء القديمة فقد اعتمدت على بركتي “الحج”، و”السورية”، حيث يقول الكاتب والباحث “محمد طربيه” رئيس جمعية “العاديات” في “السويداء” أن “السورية” بركة أثرية قديمة مرتبطة مع بركة “الحج”؛ البركة الرئيسة في المدينة، بنظام ري قديم عجزت الأبحاث والدراسات عن تبيانه أو شرحه، وقد كانت هاتان البركتان مخصصتين لمياه الشرب وسقاية المواشي، وتلبية حاجات القادمين إليها من التجار والحجاج والقوافل. فيما كانت الأودية العديدة القادمة من الجبل تروي المحاصيل، والشجر بواسطة أقنية فتحها الرومان، أو أخذت شكلها من الطبيعة بسبب غزارة الماء القادم من الجبل.
أما مدينة فيليبو بولس “شهبا” فقد جرت المياه إليها من نبع قرب قرية “الطيبة” حسب ” د.علي أبو عساف”، بواسطة قناة محمولة على القناطر ، وتصل إلى الحمامات الكبرى.
وبالإضافة إلى البرك الرومانية ،توجد خزانات مائية في قلعة شهبا ( 1200م عن سطح البحر) التي بناها الفرنسيون خلال فترة الانتداب على سوريا. يتم تعبئتها عبر اقنية قادمة من نبع (أم جرن) في (تل المسيح) ، حيث تقدم هذه الخزانات حاجة المدينة من الماء.
….
يقول الدكتور علي أبو عساف: قام الحاكم الروماني “كورنيلوس بالما” بمد أقنية الري من الينابيع إلى الحقول لريها في كل من قنوات والسويداء ورساس والعفينة، وذلك منذ مطلع القرن الثاني الميلادي. كما ترك الأنباط أجمل البرك في السويداء، ومنها بركة “البجعة”2 التي ما زالت حتى الآن مستودعاً ضخماً للمياه القادمة من أعلى جبل “حوران”.
كما أن الأمير عز الدين أيبك 634م ، كان قد أنشأ بركة “العانات”اقصى جنوب السويداء ولايزال نقشا باسمه موجوداعلى طرف البركة.
الوديان .. والمياه الجوفية
صلة وصل مع الجيران ..
قبل أن يقرر الانتداب الفرنسي إنشاء سد شهبا، كان وادي “اللوا” يروي مناطق اللجاة، ويغذي المياه الجوفية فيها، وعند حاجتهم للمياه، كان السكان يقومون بحفر الآبار الصغيرة ، وكان الشتاء فرصتهم لملئها بالمياه المتدفقة من الوادي، إذ كانوا يتفازعون على تنظيف المجرى لعدة كيلومترات قبل أن يملؤوا آبار الشرب، ومن بعدها آبار المياه المخصصة للمواشي، وهذه العادة انتهت طقوسها بعد أن منع الوادي من التدفق بسبب السد الذي لم يستفد منه أحد حتى اللحظة، وفشل في الاحتفاظ بالماء.
وهناك “وادي سليم”، و”وادي الجعار”، و”وادي حور الصون”، و “وادي راجل ” و”وادي الزيدي” الذي يعد من أكبر الوديان وأغزرها، حيث يجمع عدداً كبيراً من أودية السفح الغربي لجبل حوران، وينقلها لسهول “حوران” ليشكل أحد أهم منابع “نهر اليرموك”.

الآبار الارتوازية والسدود وسائل الأهالي لسد حاجة المياه
وصلت المياه عن طريق شبكات خاصة لكل منزل في السويداء منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، لكن البنية التحتية كانت عائقاً أمام الحصول على مياه نظيفة وكافية، وكان الاعتماد الأكبر على السدود التي أنشأت عند سفح جبل حوران، وتجمع الأودية العملاقة، لسد حاجة المواطنين للمياه من خلال وضع محطات تصفية كي تصل نظيفة. لكن مع ازدياد عدد السكان؛ باتت الحاجة ماسة لحفر آبار ارتوازية، علماً أن غالبية الدراسات الجيولوجية التي صدرت قبل العام 2000 تؤكد أن الآبار غير مجدية اقتصاديا، وقد جاءت الصدفة وحدها وراء اكتشاف البحر الجوفي الذي تعيش عليه المحافظة، لكن بنفس الوقت كان حفر وتشغيل هذه الآبار هدية لا تنتهي مفاعيلها للفاسدين الذين يتلاعبون بأهم عنصر للحياة دون أن يردعهم أحد، ما جعل عدداً غير قليل من السكان إلى العودة الإجبارية للماضي والاعتماد على مياه الأمطار لملء خزاناتهم الأرضية، وتجهيز آبارهم القديمة من جديد من أجل مواشيهم، وسقاية حواكيرهم الصغيرة
خاتمة
إن الآثار الخالدة التي تركتها الحضارات المتعاقبة على حوران، في الهندسة المائية تقدم لنا اليوم درسا وأنموذجا حيا في تسخير الطبيعة من أجل بناء مقومات العيش الأساسية.ممزوجا بقدر كبير من العلم والفن والجهد الذي لا ينقطع.
و ليس من دون دلالة رفع الماء إلى مرتبة القداسة وبناء المعابد له ( معبد رية المياه في قنوات” انظر الصورة” -معبد آلهة الماء في السويداء -معبد حوريات الماء في بصرى..) والتي تعتبر مواقع سياحية بامتياز يمكن استثمارها في تنشيط اقتصاد المنطقة.

لكن الذي حصل ويحصل أن تلك الآثار مهملة وتتعرض للعبث والتخريب،
وفي الوقت ذاته تتفاقم ازمة المياه في السويداء باطراد في ظل تخلي الدولة عن دورها التنموي وفي ظل شبكة فساد باتت متجذرة في جميع مفاصلها. بينما ينام نصف مليون مواطن كل يوم للتفكير بالحصول على حصة من المياه كي تسد رمقهم، فيما يعيشون فعلياً على بحر عائم من المياه العذبة.
————————–
الهوامش
راجع الدكتور علي أبو عساف الآثار في جبل حوران.
قرية البجعة بين مفعلة ونمرة تقع على تلة عالية وتقابل تل المسيح من الشرق.
مقابلة سابقة مع الباحث في الآثار حسن حاطوم.
راجع مجلة مهرجان الجبل الأول 2008

اترك تعليق