سلمان عز الدين
في زمننا، زمن الصحافة الورقية، كانت صحف المحافظات والأقاليم مناف للصحفيين المشاغبين ومراكز تأديب لهم، ويكفي تهديد بالنقل إلى إحدى تلك الأماكن القصية المجهولة ليعلن الصحفي المعاقب توبة نصوحة، مقسماً بأغلظ الأيمان أنه لن يعود إلى سلوكه المشين ثانية. وبالطبع فقد كان “السلوك المشين” أي شيء يغضب رئيس تحرير الجريدة المركزية “الكبرى”: مقال مسروق، غياب عن العمل، نقد غير مسؤول لمسؤول، أو عمود مستهتر يطالب بالديمقراطية والعياذ بالله.. أو، ببساطة، نميمة عن رئيس التحرير نفسه تصل إلى أذنيه عبر واحد من أولاد الحلال.

كانت أياماً منذورة للقضايا الكبرى، والقضايا الكبرى، كما تعلمون، تحتاج إلى صحفيين كبار يعملون في صحف كبيرة. وفي الصفحات الستة عشرة التي كانتها أي من صحفنا كنتم تعثرون على كل شيء كبير: قضية مصيرية، منعطف حاسم، خطاب تاريخي، صراع وجودي مع الإمبريالية، معاناة العالم الثالث، نضال حركات التحرر الوطنية.. ولكنكم بالكاد كنتم تقعون على قضية “صغيرة” تخص مكاناً “صغيراً” في هذه البلاد.
أجل، هناك صفحات للشؤون محلية، ولكنها في المجمل كانت خدماتية، مخصصة للأعطال التقنية والفنية في عمل الحكومة والبلديات: انقطاع التيار الكهربائي هنا أو انفجار الصرف الصحي هناك.. ولكن لا وجود لحديث عن نزاع عشائري في منطقة ما، أو حساسية اجتماعية بين مكونات منطقة أخرى، أو شعور بالتهميش والإقصاء لدى سكان محافظة معينة..
هكذا وفيما كنا مشغولين بقضايا العالم وصراعاته، كنا نغيب المجتمع هنا، وكأن الناس مجرد متفرجين يحبسون أنفاسهم وهم يتابعون “النضال” ضد قوى خارجية، دون أن يهمهم شيء في حياتهم هم، حياتهم الواقعية المترعة بالتفاصيل والهموم والشواغل!.
وكنا نبرر ذلك بأنها احتياجات المعركة المصيرية التي تتطلب تأجيل التفاصيل الداخلية ريثما يُحسم الشأن الخارجي، فتطمئن الأمة على وجودها أولاً ثم نلتفت إلى احتياجات الأفراد والجماعات عندنا.. أما البعض منا الذين انتقدوا الحال هذا فقد نحتوا هذه العبارة الفنتازية: “نحن بارعون في السياسة الخارجية، ولكن نعاني من بعض القصور في السياسة الداخلية”!.
ماذا ستفعل، والحال هذه، جريدة تصدر في حماة أو الرقة أو درعا..؟. وكيف نتصور، فوق ذلك، صدور صحيفة في معضمية الشام أو جرمانا أو الصقيلبية أو إزرع أو صلخد…؟.
ما الذي بإمكان هذه الصحف المسكينة أن تقدمه لقضايانا الكبرى دائمة الاشتعال؟.
لم نسأل يومها عن الناس ورغباتهم واحتياجاتهم، ولم نهتم لكوننا نكتب في صحف بلا قراء نخاطب فيها أنفسنا، مفترضين، عن وهم، أننا نخاطب العالم برمته.. هذا لم يكن من بين شواغلنا ولا من بين مسؤولياتنا!.
في مطلع الألفية، مطلع القرن الواحد والعشرين، بدأت الصحافة تتلمس إشارات التهديد الآتية من التكنولوجيا الجديدة، إذ بدا واضحاً أن شبكة الانترنت سوف تغير عميقاً في مفهوم الإعلام التقليدي ودوره، ولقد حدس المعنيون في مؤسسات الصحافة أن المعركة سوف تكون شرسة، وربما تنتهي في غير صالحهم.
ظهرت اقتراحات كثيرة من أجل الإنقاذ، كان بينها هو اتجاه الصحافة إلى مزيد من المحلية، فإذا كانت الشبكة العنكبوتية قد غزت كل بيت، فعلى الصحافة أن تفعل الأمر نفسه، فيغدو لكل مدينة، لكل بلدة.. قرية وحارة وشارع وزقاق.. لكل مكان مهما صغر، صحيفة خاصة به، تعنى بهمومه وتنقل أخباره وتكون له نافذه على العالم.
وفي بعض التطبيقات العالمية لهذه الفكرة، كان المحررون يجلسون في مقهى شارع ما ليحرروا جريدتهم على مرأى من سكان الشارع وبمشاركتهم، فكان البقال والحلاق والحارس.. يتدخلون بالتصويب والحذف والإضافة.
لم يطل الأمر بالتجربة لكي تصيبنا عدواها، إذ تسارعت التطورات التكنولوجية واقتربت المعركة من الحسم (على حساب الصحافة طبعا).. ولقد جاء الفيسبوك عندنا ليقلب المشهد كله، فجعل من الهواة صحفيين، ومن المتلقين مرسلين، ومن الصفحات الشخصية وسائل إعلامية.. ولكن وسط هذه الفوضى فإنه قدم فكرة للحل، فقد صار لكل بلدة وقرية ومدينة.. صفحة خاصة بها، هي بمثابة شبكة أخبار، أو صحيفة حسب مصطلحاتنا القديمة، وعبرها يستطيع الشخص أن يعثر على مفردات بيئته وهمومها وهواجسها وطموحاتها..

ولكنه الفيسبوك في النهاية، حيث الارتجال والعشوائية وغياب المسؤولية وانعدام الأدوات اللازمة لمخاطبة هموم عامة في إطار وطني. ومن هنا تأتي أهمية المشاريع الشبابية التي تظهر الآن مبشرة بالمزيد: مواقع الكترونية، يختص كل منها بمدينة أو محافظة أو منطقة.. يعنى بشؤونها وأخبارها وهمومها، دون أن ينظر إليها كمكان معزول منفرد أو هوية مستقلة قائمة بذاتها، بل يضع تفاصيلها في سياق المشهد العام، وينظر إليها كجزء ضروري من الكل لا يستغني عنها ولا تعيش إلا به. والأهم أن ذلك يتم بأدوات المهنة ووفق تقاليدها وأعرافها: حيث البحث المعمق الجاد، والاستقصاء الماهر، وتحري الدقة والموضوعية، والحس بالمسؤولية القانونية والاجتماعية.. باختصار: صحافة حقيقية.
هذا هو الدور الذي وجد “صدى الجنوب” ليلعبه، وهذا هو ما جعل انطلاقه، منذ نحو عامين، خبراً ساراً للكثيرين.