أطفال الشوارع بين التعاطف النظري والازدراء الواقعي

سارة حسن
……
إذا لم يتحدد فهمنا للإنسانيّة بما قاله الفيلسوف الألماني “كانط”: “لو كانت سعادة البشرية متوقفة على قتل طفل بريء لكان قتله عملاً غير أخلاقيّ”، سيستمر الجميع في دفع فاتورة التوحش التي لابد أنّ تأخذ العالم من أذنيه إلى الجحيم. لقد أقرّ “كانط” على وجه اليقين أنّه لا يجوز للغاية بأيّ شكل من الأشكال أن تبرر الوسيلة ـــ وحتى لا نغرق في التجريد ــــ بمعنى أن يصبح تشرّد الأطفال مثلاً، كعارض جانبيّ لتنافس وطموح القوى المهيمنة محلياً وعالمياً.
ففي بداية 2021 نشرت صحيفة تشرين الرسمية إحصائية قدّرت عدد المتسولين في سورية بحوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات، ويشكل الأطفال 10% منهم أي حوالي 25ألف طفل، وعلى الرغم أنّ هذه النسبة كبيرة، لكنها تبقى إحصائية غير دقيقة، فالنسب الواقعيّة أكثر بكثير والأخطر أنها في ازدياد مستمرّ، جراء الوضع الاقتصادي الخانق وما خلفته الحرب على الأسرة السوريّة من أسوأ حالات التردّي المعيشيّ ، والذي لا يلوح أمل قريب بانتهائه.
فما نشاهده اليوم في الجنوب السوري هو مرآة كلّ ما يحدث في سوريا، فحينما يصبح الشارع العنوان الدائم لتواجد طفل، أي حين يصبح وجوده وبقاؤه يعتمد عليه اعتماداً كلياً، هذا يعني تنازلاً صريحاً عن دور الأسرة في تأمين الحماية والرعاية، وبتعبيرٍ أدق تنازلاً عن وظيفتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة في تأمين احتياجات الطفل الجسدية والنفسيّة، ولكن حين تنهار المنظومة الأخلاقيّة والقانونيّة والاقتصاديّة للمجتمع، سيلعب الجوع دوراً حاسماً في إعادة تشكيل العلاقات وصياغتها، وبالتالي لن توجه إصبع الاتهام إلى الأسرة فقط، بل ستطال أصابع الاتهام المجتمع الدولي والمحلّي والأهلي والمدني.
فأن يصبح مشهد الأطفال المتسولين مشهداً مألوفاً تغيب عنه الأسئلة والإجابات، هذا يعني أنّ الطفل مركز الإدانة الوحيد، كأنه السبب وراء وجوده في الشارع، بالطبع هذه البيئة المعادية ستخلق لهؤلاء الأطفال مصدرين للخوف، الأول: أصحاب المحلات والمارّة الذين يمارسون بحقهم عنفاً لفظياّ وجسدياً، وبالتأكيد لن نغفل التحرش الذي قد يتعرضون له ممن يستهدفهم ويستسهل الوصول لهم، والمصدر الثاني هو وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ومديرياتها، التي يمكن أن نستشف من تصريحات مسؤوليها _”تم ضبط عدد من الأطفال المتسولين”، “نعمل على ملاحقة الأطفال المتسولين وتوقيفهم”_ الآليةَ التي يتعاملون فيها مع هذه الظاهرة بملاحقة الأطفال كمجرمين، وبالإجراءات التي يتخذونها، كأن يقوموا باستدعاء آباء الأطفال وكتابة تعهد خطيّ بعدم السماح لهم بالعودة إلى الشارع، والأكثر عبثيّةً، عندما لا يتوفر لديهم ما يثبت هوية هؤلاء الأطفال، يطلقون سراحهم ليعودوا إلى الشارع مجدداً.
وإذا ما تركنا جانباً مصدري التهديد السابقين لأطفال الشوارع، كون الأول محكوم لكلّ ما خلفته الحرب من هشاشة اجتماعية ونفسية واقتصادية، والثاني كونه مسيّر محكوم على أمره، ينفذ ما يؤمر به، يمكننا أن نتساءل عن عمل منظمات العمل المدني في المحافظات وما الذي قدمته لاحتواء هذه الظاهرة؟ ولكي لا نذهب بعيداً، هناك ما يزيد عن 70 منظمة في محافظة السويداء، ماذا لو أنّ نصف عدد هذه المنظمات استهدف هذه الظاهرة وأعطاها الاهتمام المطلوب، ألم يكن بالإمكان تقليصها أو احتواءها؟
إنّ الجهات الحقوقيّة المحلية والعالمية تحدد بوضوح الفرق اللغوي بين مصطلحات تبدو متشابهة ومتداخلة، فهي تميّز بدقةٍ بين مصطلح أطفال الشوارع ومصطلح أطفال في الشارع أو أُسر الشارع وغيرها، ولكن ما لم تستطع تحديده هذه الجهات مسؤوليتها المباشرة اتجاه هذه الظواهر، التي دائماً ما يدفع الأطفال فيها ضرائب الكبار، وكأنّ تشريحها للظاهرة الذي يبقى حبيس الورق من خلال ما تقدمه من بحوث ودراسات ومقالات، يعفيها من مهمتها العملية على أرض الواقع.
حقيقةً بعد كل هذه السنوات لسنا بحاجة لمن يفند لنا أسباب ونتائج ما نعيشه ونتعايش معه، لقد صنعت المعاناة من كلّ منا خبيراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، كما أننا لسنا بحاجة لإحصائيات وأرقام غالباً ما يتم تزييفها، لتخبرنا بعدد المتسربين من المدارس، فمشهد المتسولين من الأطفال وباعة الشوارع والباعة المتجولين والمشردين ومرتادي الحاويات هو شاهد حيّ على ما يتم التعتيم عليه، هذا التعتيم الذي جعل من مذيعة في الآونة الأخيرة، تجرؤ في برنامج صباحي على التلفزيون السوري على انتقاد ظاهرة التسول في البلاد الأوروبية بغباءِ من يعتقد أنّ إصبعه بإمكانها أن تحجب الشمس.
إنّ الإنسانية المزيفة هي ما تبرر قبول الانتهاكات المستمرّة للطفل، فمن يكترث اليوم لأنّ تُضرب عرض الحائط القوائم الطويلة المعتمدة لحقوق الطفل! هذا التناقض الذي يحكم العالم هو ما يجعلنا نتعاطف نظرياً مع تشرّد الأطفال ومعاناتهم ونزدريهم واقعياً. أن يكون طفلٌ ما في الشارع أو أن يكون طفلَ شارع، هذا لأن هناك من قبل بهذا الشيء أو سعى إليه، هنا يتوضح المغزى الأخلاقي العميق الذي قصده كانط إذا ما فكرنا جدياً بما قاله

اترك تعليق