الأمومة، هدف، أم نقمة؟

 مثلما تؤثر الهرمونات والجينات على النساء وتجعلهن راغبات بأن يصبحن أمهات، فإن المجتمع والتاريخ أيضاً يؤثران عليهن. وقد يجعلهن يتنازلن عن هذه الرغبة، أو حتى يشعرن بنقمة تجاه فكرة الإنجاب والالتزام بهذا الاستحقاق ومتطلباته. 

بمعنى ما، فإن مفهوم الأمومة جزء منه تاريخي وسوسيولوجي. وبالتالي فهو متأثر بالتغيرات التي تصيب المجتمعات، والتي غيرت من طبيعة الأمومة وشكلها وطرق ممارستها. والطريقة التي تجعلنا نقارب مفهوم الأمومة. هو في فهمنا للتغيرات التي تحدث للمجتمع، وفهم ربما طبيعة الأجيال الجديدة واللاحقة وموقفهم من الأمومة. 

***

كان للثورة الصناعية تأثير مهم في مسألة الأمومة عندما نقلت الناس من الريف إلى المدينة، ومن الحقول الزراعية إلى المصانع والشركات. ولعل من أهم الآثار الجانبية لهذا الانتقال، هو التقلص التدريجي لمفهوم العائلة من حياة الناس. وأصبحت عائلة الطفل هي أمه وأبوه فقط، وكل من هو خلف باب المنزل غريب.

ذلك ما كان له أثراً كبيراً على الأمومة بمعناها التقليدي الذي عرفته المجتمعات. حيث كانت التربية مسؤولية جماعية، وعبء تحمله العائلة كلها بمن فيهم الأقارب: الأعمام والأخوال والجد والجدة. وكل فرد من العائلة الممتدة يمتلك الحق في تربية و توجيه أو حتى تأديب الأطفال. ولم يكن الحال كما هو اليوم، حيث الحمل ملقىً على عاتق الأم فقط. بل كانت أدوار الأمومة موزعة بين عدد من النساء: الأخت والعمة والخالة والجدة وحتى الجارة. بل إن الطفل ذاته كان يمتلك خيار من يقوم بتربيته عندما لا يعجبه قرار الأم أو الأب. فيلجأ إلى العم أو الخال أو الجد.

كل ذلك انتهى مع نهاية مفهوم العائلة الممتدة في المجتمع الحديث. إذ تجد الأمهات أنفسهن مضطرات لبذل مجهود مضاعف يضعهن تحت ضغط صورة الأم المثالية، التي تغذيها النصائح العامة والإرشادات العديدة والمتناقضة في أحيان كثيرة. ما يجعل الأم تشعر طوال الوقت أنها التي سوف تحاسب وحدها على أي تقصير أو خطأ يحصل لأطفالها. من دون أن يمتلكن أي مرجع حقيقي وواضح يساعدعهن في طرق التربية الجديدة لسد الفراغ الذي تسبب به اختفاء العائلة.  

لقد حولت الثورة الصناعية والحداثة  المرأة إلى أم موظفة وطباخة ومدرسة وأخصائية اجتماعية وعاملة مصنع. كان مطلوباً منها إتقان كل الأعمال لتثبت كفاءتها من جهة، ولكي لا تفشل في مهامها التربوية من جهة أخرى، الأمر الذي جعلها تقسم نفسها على سباقين متوازيين داخل وخارج المنزل، كل سباق فيهما يتطلب مشقة ومجهوداً يفوق طاقتها.

 ذلك ما يُعتقد أنه السبب في تنامي مشاعر النقمة لدى النساء على فكرة الأمومة. ومسؤولية الأولاد التي تقف حاجزاَ دون تحقيق الطموح المهني وبناء الcareer. من دون النظر إلى أصل المشكلة في النمط الصناعي الحديث، وساعات العمل التي تصل إلى 10 – 12 ساعة يومياً. ولا تراعي خصوصية المرأة ومتطلبات الأمومة في الحمل والرضاعة ورعاية الأطفال وباقي الأوقات التي تحتاجها النساء بـ كونهن نساء.

لماذا أصبحت الأمومة أصعب من أي وقتٍ مضى؟

رغم أن الرفاهية والثورة التكنولوجية قد سهلت الكثير من المهام أمام المرأة. (لوجود الأجهزة الكهربائية المختلفة في أغلب المنازل، والتي أصبحت تقوم بجزءٍ كبيرٍ من دور الأم في السابق). وارتفع المستوى المعيشي للأسرة عموماً، وأصبحت الخدمة والرعاية تحتاج لمجهود أقل من الماضي، فضلاً عن انخفاض عدد الأولاد عما كان عليه سابقاً، إلا أن التاريخ يخبرنا أن إحساس النساء بالنقمة تجاه الامومة بات أعلى مما كان عليه في الماضي. 

ومع تدهور الظروف الاقتصادية في مجتمعاتنا، لم تعد المرأة تملك رفاهية الانسحاب والاكتفاء بالمهام المنزلية كما كان سابقاً. بل أصبحت رهينة معادلة جميع أطرافها خاسرون، الأم والطفل والأسرة. 

هذه المسؤولية التي تنفرد الأم بتحملها أصبحت في العصر الحديث بحسب ــ عدد من  الأبحاث والدراسات ــ سبباً لعدة اضطرابات وأمراض. مثل اكتئاب الحمل، واكتئاب ما بعد الولادة. ومسؤولة عن حالات القلق والوسواس و الذهان والاكتئاب التي تحدث للأم بعد الولادة. وحتى وقت قريب لم يكن لهذه الاضطرابات تفسير طبي واضح. ومنذ ما يقارب 30 سنة فقط، بدأ تشخيص هذه الاضطرابات حيث تشير الدراسات الطبية’ أنها تصيب حوالي 50 – 85% من الأمهات الجدد.

(قد يفسر ذلك جزئياً تنامي ظاهرة رفض الإنجاب لدى عدد من الفتيات اليوم في مجتمعاتنا المحلية. في ظل الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة والمعقدة. ونزوعهن نحو عدم التعرض لهذه المعادلة التي يعتقدن أنها ستكون كارثية على الأبناء. ومن واجبها عدم تعريض الأطفال لهذه الظروف غير الإنسانية. بالاضافة الى زيادة تعقيد الحياة المعاصرة ومفهوم الهوية.

في دراسة للكاتبة سارة يوسف بعنوان: لماذا‘ أصبحت الأمومة أصعب من أي وقتٍ مضى؟’   تقول: ” لن يتناقص الألم والإرهاق والشعور المستمر بجلد الذات عبر الزمن. بل كل ما سوف يحدث، هو أن تتسع قدرتنا على تحمّل تلك الأشياء بشكلٍ أكبرٍ، ومن ثمّ التعامل معها بذكاءٍ أكبر”.

وتلفت الكاتبة الانتباه إلى فكرة: أن الأمهات يحاولن دائماً الاستماع لكلام خبراء التربية. إلا أن المشكلة أن علوم التربية كجزء من العلوم الإنسانية، هو علم متغير مرتبط بتطور حركة المجتمعات. ما يجعل هذه الآراء والأبحاث متغيرة بدورها وقد تتعارض مع الطرق السائدة. 

التربية الإيجابية، في مجتمع مليء بالسلبيات

فمثلا.. اتجاه ‘التربية الإيجابية ’الذي ظهر في أوروبا وأمريكا منتصف القرن العشرين، وتمارسه أمهات الطبقات الوسطى في عدة مناطق من العالم. والذي يتطلب من الأهل النقاش المستمر مع أولادهم. وأن التربية  تخلو تماماً من الانتقاد. بحيث لا يعاقب أو ينتقد الوالدان تصرفات أولادهم الخاطئة، وإنما يتم تشجيعهم والثناء على تصرفاتهم الصحيحة فقط. وإعطائهم الفرصة ليتعلموا من أخطائهم. تلك الأفكار التي بدأت مع عالم النفس النمساوي ‘(ألفريد أدلر’ 1870 – 1938). سوى أن هذه النظرية عندما انتقلت إلى مجتمعاتنا، لم تكن تلحظ مقدار الصعوبة والعنف الذي تواجهه الأمهات بشكل خاص، والأهل عموماً. بمعنى كيف يمكن للتربية الإيجابية أن تنجح في واقع مليء بالسلبيات؟! لاسيما وأن مستوى الفقر بين النساء أعلى، ومعدلات الدخل دوماً أقل. يضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات الطلاق وما يترتب عليه من أعباء مادية على الأمهات. الأمر الذي يجعل من الأمومة في هذه المجتمعات وفي ظل هذه الظروف، أشبه بتحدٍ أو أزمة في حالات كثيرة.

بالنتيجة فإن الظروف التي تضمن تكوين علاقة أمومة سليمة وصحية تسمح بتنشئة أطفال أسوياء. أصبحت ــ رغم نظريات التربية الإيجابية ــ أصعب من قبل وليس العكس. 

تجربة فردية

في كتابها ‘( كيف تلتئم: عن الأمومة و أشباحها). تتحدث الكاتبة والشاعرة المصرية إيمان مرسال عن تجربتها الشخصية في الأمومة بإيجابياتها وسلبياتها وتقول:

“إن الأمومة المثالية التي يطالب بها المجتمع ومؤسساته الأمهات، وما يجعل الأمهات يجدن أنفسهن وسط ملايين النصائح والتوصيات طوال الوقت. تخلق لديهن شعوراً دائماً بالذنب. لأنه مهما حاولن الالتزام بهذه النصائح، فلن تنجحن في تنفيذها كلها أو حتى نصفها”

الا أن إيمان مرسال لديها اقتراح بديل وهو الأمومة باعتبارها تجربة فردية تسمح للنساء التجريب والخطأ، رحلة تعلم مستمرة. الأمومة التي تدافع عنها الكاتبة، هي الأمومة التي تتسامح مع الأخطاء وتخلق مساحة للأمهات لكي يستكشفن أنفسهن، ويستكشفن أطفالهن ويستمتعن بالتجربة وجمالياتها.

ايمان مرسال، شاعرة وأكاديمية ومترجمة مصرية

 ليس الهدف هو تعميق الخوف من الأمومة وإنما التفكير في المفهوم بطريقة سوية.

وكيف أنها تأثرت بالتحولات التاريخية التي أصابت وتصيب المجتمع باستمرار.

لكن في النهاية تبقى الأمومة اختيار نبيل ومليء بالجوانب الإيجابية والمشاعر الجميلة. لكنها تحتاج إلى الدعم، ليس كمؤسسات وجمعيات وحسب، بل أيضاً كأفراد بالقدر الذي نستطيعه. حتى لا تضطر الأمهات أن تدفع وحدها ضريبة وثمن هذا الاختيار. 

اترك تعليق