الدراما السورية وأسئلة الواقع

إنّ الاستثناءات القليلة في الدراما السوريّة، كمسلسل (عصي الدمع) للمخرج الراحل (حاتم علي)، أو ( غداً نلتقي و قبله زهرة النرجس ل رامي حنا، وغيرها من الأعمال التي تركت بصمة مختلفة في مسيرة الدراما السورية، بالاضافة الى أعمال مميزة لكاتبات نساء ساهمن على صعيد النص و السيناريو، وقدمنّ صورة للمرأة أقرب لحقيقتها، وتعبر عن كينونتها الأنثوية، لم تظهر ضمن نسق الدراما التقليدي، مثل يم مشهدي في قلم حمرة ودلع الرحبي وأمل حنا ورنا بيطار وريما فليحان)، تؤكد على حقيقة القاعدة ولا تنفيها. من أن المفارقات الصغيرة في عالم الدراما السوري تشير إلى خلل عضوي في

مكسيم خليل- كاريس بشار/ مسلسل غداُ

بنية الجانب الوظيفي فيها، لا تكشفه الا نوعية الأعمال التي تقدم الصورة الأقرب لواقع المرأة في المجتمع وتجعل العمل الفني متسقاً مع منظومة القيم الانسانية، أو محاولا أن يقترب من النموذج المطلوب تكريسه بعيدا عن الأعمال الدراميّة التي قد لا تتعدّى كونها حقل استثمارٍ يخضع لاعتبارات تسويقيّة وعقائدية عبر توظيفٍ مضاد، يسمح للقوى المتنفذة في عمليّة الإنتاج الدرامي بتمرير أجنداتها وتبريرها وتسويقها، ففي مسلسل (كسر عضم) والذي يتناول في جزئية منه قضية الأطفال السوريين اللاجئين في لبنان غير المسجلين في دوائر الأحوال الشخصية في سوريا، والمحرومين بالتالي من كافة حقوقهم المدنية (مكتومي القيد)، ومع أهمية الإضاءة على هذه القضية الإنسانية التي تعاني منها شريحة واسعة ممن لجأوا إلى خارج سوريا نتيجة الصراع المستمر، تبرز أسئلة لابد من طرحها حول ابتعاد الدراما السورية منذ نشأتها والى اليوم، ونأيها عن التعرّض لقضية (مكتومي القيد) داخل الأراضي السورية، القضية التي تمس شريحة من السوريين، ومكون من مكونات المجتمع السوري، في حين تطرح قضية مكتومي القيد لمن هم خارج الأراضي السورية.

لماذا الدراما؟

التعاطف مع ضحية واحدة قد يضمن تقديم مساعدات اكثر من القضايا الكبرى ظاهرة iStock

يشكّل السؤال الذي طرحه عالما النفس الأمريكيين “بول سلوفيتش، وديبورا سمول” مدخلاً جيداً لفهم القدرة التي تتمتع بها الدراما في رصد الواقع وتسليط الضوء على مفاصله، فسؤالهما الذي انطلقا منه: “لماذا يكون التعاطف كبيراً مع القضايا الإنسانية في حالات الضحايا الفردية بينما ينخفض مقدار التعاطف كلما كان عدد الضحايا أكبر؟”، يصبُّ في صالح الدراما إذا نظرنا إلى الجانب الوظيفي لهذا الفن، فالتخدير النفسي الذي يكبح مشاعر التعاطف بين الأفراد، ينجم حسب اعتقادهما عن آليات دفاع نفسيّة تسطّح الألم كي يتمكن الأفراد من احتماله، ولكن هذا التسطيح إذا ما استمر فإنه سيؤدي حتماً إلى تسطيح الوعي العام، أو ما سمّياه بظاهرة (انهيار التعاطف)، ولكن عندما تكون الضحية واحدة، أو عندما يتم التركيز على الحالات الفردية للأشخاص ـــ وهذه وظيفة الدراما ـــــ فسيكون لدينا القدرة على التعاطف بشكل أكبر، كوننا نستطيع أن نتخيل أنفسنا في ظروف هذه الضحية، ونختبر هذه المشاعر بناءً على ما مررنا به من تجارب وأحاسيس. 

تيم حسن – مسلسل الهيبة

 يبدأ دور الدراما إذن في تجميع حزم المشاعر الإنسانيّة المبددة واقعياً، عبر تكثيفها داخل محرقة العدسة الاجتماعيّة. ونحن ــــــ السوريين ــــــ أمام المشهد اليومي لعبثية الحياة ومجانيتها، قد نكون المثال الأبرز على ما يحتاجه المجتمع إثر تبعثر التعاطف فيه وانهياره، وهنا قد تكون الدراما التلفزيونيّة على وجه الخصوص هي المرشّح الأكبر لحماية التعاطف وتماسكه، فالدراما التلفزيونيّة وإن كانت تتناول القضايا الاجتماعية الخاصة بالمجموعات الكبيرة من البشر، إلّا أنّ هذا التناول يتمّ فقط من خلال التركيز على القصص الفردية والأزمات الخاصّة للشخصيّات، بالتالي إنّها تضمن فهماً أفضل لهذه القضايا وتضامناً أكبر معها، لذلك يكون لها أثراً كبيراً في توجيه المشاعر والقناعات، عبر كونها محركاً نشطاً في  تغيير سلوك الأفراد وقناعاتهم. بيد أن هذه الآلية اذا ما استعرضنا نسق الدراما السورية خلال العقد المنصرم على الأقل، سنجد أنها تسير بالقضايا التي تتبناها بالاتجاه المعاكس عبر اعلاء شأن النموذج السلبي بدلاً عن ادانته، حيث يتم تقديم صورة البطل المحبوب والوسيم على هيئة تاجر مخدرات وزعيم عصابة كما في شخصية (جبل-تيم حسن) في مسلسل الهيبة والتي تحولت الى ستايل شعبي يتم تقليده والتشبه به في الشكل واللبس وطريقة الكلام. ومن هذا المنطلق ندرك الأثر الشديد للشخصيات التي تأخذ الأدوار الرئيسية في الأعمال الدرامية على الحياة الواقعية للأفراد، وبشكل متفاوتٍ بحسب تفاوت الوعي بينهم، ذلك لأن هذه الشخصيات هي محور العمل الدرامي ومحور القصة التي يقدمها العمل، وبالتالي نحن نتعاطف معها بشكل أو بآخر، والأشخاص غير القادرين على أن يكوّنوا نماذجاً متفردةً بصفاتهم الشخصية، غالباً ما يختارون نماذجاً من الشخصيّات الدرامية ويتماهون معها بدرجات متباينة، فيظهر هذا التأثير بدايةً في تقليد الكلمات وتبني المصطلحات، مرورا بممارسة العنف ضد المرأة الذي بات يراه طبيعيا وجزءاً من الرجولة التي يتحلى بها البطل الذي يراه على الشاشة، تحت عناوين متعددة مثل التأديب، أو بدافع الغيرة أو لفرض الهيبة ( كما يوحي اسم المسلسل)، أو حتى لمجرد تفريغ غضب عابر.

اقرأ أيضاً: غداً نلتقي -خارج السرب https://dahnon.org/archives/8694

صورة المهمشين في الدراما

تمادت الدراما في تعظيم قوة المتنفذين وشرائح المجتمع العليا اقتصاديا وسياسيا، في مقابل تقديم صورة نمطية للمهمشين من شرائح الفقراء وسكان المخيمات وأطراف المدن والتي تقوم على تصوير هذه الفئات غالباً بشكل سلبي، وتقديمه كمجتمع مواز تنتشر فيه أعمال البلطجة و الجريمة للخروج من هذا الواقع بالنسبة للذكور، أو امتهان الدعارة بالنسبة الى النساء، أما من يتعرضون للظلم، فهم مجرد بائسين لا سبيل لهم إلى الإنصاف والعدالة سوى القدر، والذي قد يلعب لعبته أحياناً في بعض النهايات لأخذ حقوق المظلومين، وفي هذا أيضاً تكريس لصورة نمطية أخرى، وهي أنّ هذه الفئة مهمّشة لأنها بالأساس اتكاليّة وغير واقعيّة, فئة جاهلة تؤمن بالخرافة والأوهام في كافة تفاصيل الحياة. كما أنّ الطبيعة النفسية لأفراد الفئات الأكثر هشاشة تدفعهم للتشبه بالظالم كوسيلةٍ دفاعية لاستعادة الكرامة المهدورة جرّاء الظلم المستمر، لذلك نرى الكثير من الأفراد يعجبون بتلك النماذج التي تصورها الدراما على أنها تستطيع تحقيق كل ما تريد، لأنها تمتلك السطوة والسلطة، رغم التعرض للاضطهاد من النماذج ذاتها في الحياة الواقعية، وعلى هذا النحو تعزز الدراما وجود الشخصية المتسلطة في الحقيقة، وتزرع في اللاوعي لدى شريحة واسعة من المجتمع ضرورة التماهي معها، فهي تصوّرها على أنها شيء خارج عن الإرادة والسيطرة، بالتالي من الواجب قبولها والخضوع للأمر الواقع. 

نسرين طافش- مسلسل جوقة عزيزة

ففي مسلسل جوقة عزيزة الذي عرض في الموسم الرمضاني الأخير، تُقدم البيئة الشامية انما بطريقة لا تقبل الحل الوسط، “فاما تجسيد المرأة من وراء (ملاية) أو تقديم الشام على أنها العكس: حانات ومراقص وفتيات ليل” بحسب تعبير الناقد وسام كنعان

المساواة: ضالة الفن

إذا اتفقنا على أنّ الدراما البصرية هي تطور للرواية والمسرح كجزأين رئيسيين من ثقافة أي حضارة، نرى أنّ النصوص الأدبية في ثقافتنا لم تصنع خيالاً يحاكي فكرة المساواة بجديّة وعمق، ولهذا لم نرَ حتى الآن قفزةً كبيرةً في تناول الدراما السورية لقضية المساواة بين الرجل والمرأة كما في ثقافاتِ مجتمعاتٍ أخرى، اذ لا يزال حضور المرأة خجولا على مستوى الصناعة الدرامية من حيث الكتابة والاخراج وكذلك الانتاج، رغم الحضور الجيد على مستوى التمثيل وتجسيد الأدوار، ما يجعل الدراما ذات طابع ذكوري في جميع مراحل صناعتها، بدءاً من النص والاخراج، وانتهاء بالتجسيد على الشاشة، حتى لتبدو المرأة في غالبية الأعمال الدرامية المقدمة مجرد جسر لمشكلات الرجل وقضاياه، وتتمحور حوله حياتها وقضاياها.

الرجل والمرأة متساويان بين العبيد، فنحن نعمل نفس العمل، ونذوق نفس السوط، ونموت الميتة ذاتها، وندفن في قبورٍ لا أسماء لها/ فارينيا زوجة سبارتكوس

قد يكون من اللافت اليوم تذكر أنه في بداية حركة الاحتجاجات في سوريا عام 2011، وصف تقرير اخباري لقناة عربية الحراك على أنه الموسم السادس من (باب الحارة)، فزيادة على خطورة الرسائل التي توجه للمجتمع من خلال هذا العمل المسيء للمرأة السورية، والذي ينسف فكرة المساواة بين الرجل والمرأة كان الاعلام انما يوجه رسالة الى العالم تقول: ” هذا هو الرجل الذي يريد الحرية، الذي يحاصر أمه و أخته وزوجته”.

من الواضح بأن الدراما السورية وصلت الى طريق مسدود، وأنها تعيش أزمة مركبة هي انعكاس لحالة من الافلاس الثقافي والسياسي العام في سوريا، فالتجربة القاسية التي يعيشها السوريون، ما لم تتحول إلى معرفة، فإنّ الجانب الوظيفي لأيّ فنّ من الفنون سيبقى معطلاً وبلا جدوى. ولكن وكما نقل كازنتزاكي عن أحد المتصوفين قوله:

( اذا لم نستطع أن نغير العالم، فلنغير عيوننا التي ترى هذا العالم)

اترك تعليق