كأنّ الصبح يبتعد مع اقتراب تلك الأصوات ومحاصرتها لنا. وعلى الرغم من أنها ليلة صيفية من ليالي تموز القصيرة، فقد طالت حتى ظننّاها لن تنتهي. منعتنا من الغوص في عمق النوم لنطفو على سطحه القلق المضطرب، مع القذائف التي كانت تتساقط حولنا وفي كل مكان، كوابل من مطر قادم من قرى ولغا وعتيل والثعلة وكناكر، حيث وصلت الجيوش الزاحفة المكونة كما يدّعون من الأمن العام وقوات الجيش ووزارة الدفاع، والهادفة _كما يدعون أيضاً _ لفض نزاع بين الدروز والبدو.
عند الصباح الباكر كان أهل الحي، ممن بقوا في منازلهم بالأمس، يغادرونها خوفاً من الاقتحام الوشيك في سيارات خاصة، أو على دراجات نارية تحمل أسرة كاملة، أو في بيكابات تعمشقوا على جوانبها وعلى سطوحها بعد أن امتلأت صناديقها، أو راجلين وقد عجزوا عن تأمين وسيلة نقل، وكلٌّ منهم يحمل ما تسنى له من متاع، ليذكرني المشهد بكلمة سمعتها من جدتي ووالديّ، لكنني لم أشهد مثلها: “الهجيجة”.
اتصل العديد من أقاربنا من قريتَي الكفر والهويّا يدعوننا إلى اللجوء إليهم ريثما تمر تلك العاصفة، لكنني كنت مصراً على البقاء في المنزل وعدم مغادرته!! وبذلك قررت زوجتي البقاء معي على الرغم من دعوتي لها للمغادرة مع ابنتي غنى. دون أن أعلم أن قراري ذاك مغامرة، بل مقامرة حظها في الخسارة الجسيمة أكبر بكثير من حظها في الربح!!
قررنا أنا وأخي أن نلوذ مع أسرتَينا في الصف التعليمي الذي أعددتُه للدروس والدورات في الطابق السفلي من بيتي، تحاشياً للأذى الذي يمكن أن يطالنا جرّاء سقوط إحدى القذائف على سطح المنزل في الطابق الثاني. تلك القذائف التي لا تميز مدنياً أعزل من مسلح، ولا طفلاً من شاب أو امرأة.
لم نصطحب في نزوحنا بين الطابقين طعاماً أو شراباً أو ثياباً، فلم نكن نتصور أن يطول اختباؤنا وأن يتضوّر الأطفال جوعاً قبل أن نتمكن من الخروج من مكمننا. لم نصطحب إلا بطاريةً مخزِّنة للطاقة الكهربائية، حرصنا على توفير طاقها طوال يومين من انقطاع التيار الكهربائي والاتصالات، كي نبقى قادرين على بعث هواتفنا من موتها المحتم، للاتصال بكريم ابني الموجود في دمشق استعداداً للسفر إلى فرنسا بعد ثلاثة أيام، بحثاً عن حلم وارف، وعن فضاء لا يشرنقه الرعبُ من الوطن.
نشرنا الكراسي في الغرفة وجلسنا نتبادل التوقعات، محاولين تخفيف القلق إلى حدوده الدنيا. حاولت أن أقنع الجميع ألّا داعي للقلق، ورحت أشرح لهم ما تمنيت أن يحصل: “بعد قليل ستصل دوريّةٌ… سيطرقون الباب… لم أستطع اختيار صفة للطرق… بعنف… بهدوء… فتركتُ موضعها خالياً… سيدخلون… قلت سيدخلون وتحاشيت أن أقول سيقتحمون… سيدخلون للتفتيش… حاولت ألّا أتخيل حال المنزل بعد التفتيش… لن يجدوا شيئاً… فنحن مدنيون عزّل لم تكن لنا يوماً علاقة بسلاح أو بفصائل مسلحة أو بفلول نظام… وبعدها سينصرفون… رسمتُ ابتسامةً متوترة على وجهي، لكنني لم أسمع أحداً يتنفس الصعداء لهذه النهاية السعيدة!!”
جارنا مهند، ذاك الشاب البسيط الذي انتقل مع أمه وأخته للسكن في دار جده التي تجاورنا، بعد وفاة جده وجدته، كان يغزوه القلق كالجميع، لكن تلك الغزوة راحت تعبّر عن نفسها بحركته المفرطة على الشارع، ثم بالصعود إلى سطح أحد الجيران ليتمكن من المراقبة لمسافة أبعد، أو بالتوجّه نحو دوّار العمران والعودة محمّلاً بمزيد من القلق والخوف مما كان يرى هناك. مهند بنى محلاً لصناعة الخبز العربي والفطائر وبيعها، كان يحلم بتوسعته ليصبح ذات يوم مطعماً يقصده أهالي الحي.
خرجت محاولاً تهدئته: “ادخل إلى بيتك يا مهند، كي لا تصيبك قذيفةٌ أو رصاصة طائشة… واتّكل على الله… سوف تمضي الشدة والعسر…”
أسعدني أنه اقتنع بما قلته، فصعد إلى بيته، وجلس قرب نافذة المضافة المطلّة على الطريق وعلى بيتنا يراقب مثلنا ويترقب مثلنا… بعد دقائق مرّ رجل عجوز كنا نراه كل يوم يقود عربة، يبيع عليها عرانيس الذرة وغيرها، مما قد يشتريه الأطفال من بائع متجول. ألقى التحية على مهند. تحادثا قليلاً عبر النافذة. ولا أعرف السبب الذي دفع مهنداً إلى ترك منزله والانضمام إلى الرجل الآخر على الطريق. تحادثا دقيقة واقفَين. ثم سارا باتجاه الجنوب بضع خطوات قبل أن يتوقفا وقد بدا عليهما الارتباك.
في تلك اللحظة، أدركت أنهما رأيا الغرباء قادمين. كدت أقول: “ها قد وصلوا…” لكنْ، لحظات وظهرت دراجة نارية يستقلها شخصان، توقّفتْ على بعد أمتار قليلة من الرجلين، ودون أن يسألاهما أي سؤال، ودون أي إشارة أو كلمة أو تحذير، رفع أحدهما بندقيته وأطلق ست أو سبع رصاصات رشاً باتجاههما ليرديهما معاً.
في تلك اللحظة، في ذاك الدهر، لم ينتبني إلا الرعب على أسرتي وأسرة أخي. أي قرار اتخذت؟! بل أي جريمة ارتكبت؟! صرختُ بهم هامساً، دون أن أعي الآن وأنا أكتب معنى الصراخ همساً. متمنياً الّا يكونوا قد رأوا ما رأيت: “توجهوا من فوركم إلى الممر بين الغرف…” اطمأننتُ إلى أنهم صاروا حيث لا يمكن لهؤلاء المجرمين رؤيتُنا من الخارج عبر النوافذ، وركضت نحو الباب الرئيسي لأقفله، على الرغم من علمي بأن القفل والمفتاح لا ينفعان أمام الرصاص القادر على فتح أكثر الأبواب إيصاداً. وعبر النافذة ذاتها شاهدتُ الدراجة براكبَيها تتجاوز الشهيدين أمتاراً، للتأكد من عدم وجود أحد قريب منهما، ثم تعود لتقف بحذائهما ليترجل أحد راكبَيها ويفتش الشهيدين ويأخذ ما بحوزتهما من مال ومن هواتف محمولة، ثم لينطلقا محمّلين بجريمتهما التي – بالتأكيد – لن تكون الوحيدة ولا الأخيرة.
هكذا ظل الجسدان مسجّيين على الطريق دون أن يجرؤ أحد على الخروج لإدخالهما أو لتغطيتهما، خوفاً من قناص غادر أو من دورية أخرى محملة بالحقد والموت.

باقي أحداث اليوم، على خطورتها، لم تعد تعني شيئاً بالنسبة لي!!
توضّعَتْ راجمةٌ إلى الغرب من بيتنا على بعد أمتار قليلة، وراحت تهرق جام حقدها العشوائي على البيوت والطرقات والبشر. اشتباكاتٌ إلى الشرق منا بالدبابات وقاذفات الآر بي جي. سيارات مموهة بالوحل مع محاميل من رشاشات بقياسات تدمير مختلفة. تمر جيئة وذهاباً دون أن نستطيع تمييز هويتها. أصوات هادرة من كل صوب. صراخ لا نعرف مصدره ولا نفهم معناه. صراخ من أحد المباني القريبة منا بدأ بالتكبير وانتهى بالتهديد والوعيد: “جئناكم بالذبح أيها الدروز الخنازير…” اختباؤنا بعيداً عن النوافذ. همسُنا كي لا تلتقط أصواتَنا آذانُ الوحوش. اتصالات كريم بنا للاطمئنان علينا كلَّ نصف ساعة أو ساعة بحسب حضور التغطية. المعلومات التي كانت تصلنا منه على الرغم من بعده عن الحدث ووجودنا في قلبه! فعنده كانت الشبكة فاعلة وتضخ له بالأنباء التي جعلته على الرغم من البُعد يعيش رعبنا ذاته خوفاً علينا وعلى سلامتنا. إنهم يحرقون المحال عند دوار العمران على بعد أمتار منا، وعلى الشارع المحوري. إنهم يقتلون كل من يصادفونه في طريقهم. إنهم يقتحمون البيوت ويسلبون كل ما يجدونه مما خف حمله وغلا ثمنه. إنهم يفتشون محتوى الهواتف المحمولة والبيوت بحثاً عن أدلة على التورط مع الفصائل المسلحة. ومع كل اتصال كنا نؤكد لكريم إننا ما زلنا أحياء “حتى الآن”، ولأننا لسنا واثقين من أننا سنبقى أحياء حتى الاتصال القادم كنا نحاول طمأنته: “إذا اتصلتَ ولم نُجِب فسيكون شحن الهاتف قد فرغ… وقد تكون التغطية ضعيفة، وقد….”.
كل هذه الأحداث، وكل هذه الأنباء باتت مجرد غمامة سوداء تمر بي دون أن أتمكن من أن أعيرها انتباهاً. كان عقلي قد تجمد عند تلك اللحظة التي انطلقت فيها تلك الرصاصات الغادرة لتقتل ذينك الرجلين. تلك اللحظة التي باتت لحظة إدراك مميتة كالرصاصات المميتة التي ولّدتها. تلك الرصاصات لم تقتل مهنداً فحسب. ولم تقتل حلمه البسيط فحسب. بل قتلت حلمي أنا… حلمي الكبير الذي حملته طوال خمسين سنة. حلم الوطن، ذاك الذي كان يذبل مع كل صولة للشر والطغاة والقمع، ثم يونع مع الانتصارات الخجولة لكلمة الشعب. للعدل. للديمقراطية. للسلام. دون أن تتمكن كل الأحداث والأرزاء والصعاب من أن تُذِلّه أو تُركعه، أو تقلل من جماله وبهائه وكبريائه في نفسي. لكنّ تلك الرصاصات، كأنها أصابت ذاك الحلم في سويداء قلبه فسقط مضرجاً بالأمنيات المهروقة. كأنها جرفته فاجتثته من جذوره وتركته عوداً يابساً في مهب الريح. كأنها انتهكت قداسته التي ما زلت أسوّرها وأرقيها بشظايا الآلام والدموع المحتبسة والكلمات المكبوتة. دون أن أدري أن تلك الطلقات مقدمة لكثير مما لم نعلم، مما سيقطّع جثة الحلم إلى أشلاء، ويذروها رماداً لا جذوة فيه، فقد كانت لذلك اليوم أيام أخرى قادمة. أكثر عنفاً. أكثر إيلاماً. أكثر ولوغاً في دماء البشر والأحلام.
_____________________________________________________________________________________
إقرأ أيضا على صدى الجنوب: المعادلة الصعبة، لماذا الجنوب