تتسم مجتمعاتنا بكونها مجتمعات شابة، وذلك لكون ( فئة الشباب) هي الشريحة الأكبر عدداً ضمن شرائج المجتمع، ولعل هذه الفئة الأكثر توجها ًنحو المستقبل، والأكثر شغفاً بلقائه، هي اليوم الأكثر توجساً وخوفاً منه، حيث أول ما يطفو على سطح الذهن عند الاقتراب من فئة الشباب السوري اليوم، والاحتكاك بهم والتعامل معهم ومحاولة فهمهم، هو الاغتراب الذي تعيشه هذه الفئة. فهل يُلام الشباب على هذا؟ أم هو نتيجة طبيعية فرضت عليه ظروفها، وانعكست على وعيه ووجوده، وكيانه المهدور؟ وهنا يمكننا أن نسأل كيف تلعب كل من الدراما ووسائل التواصل الاجتماعي بوصفها أدوات ووسائل يومية ومباشرة وثيقة الصلة بالشباب، دوراً في تعزيز هذا الهدر الوجودي وتعميقه؟

نلاحظ أنّ الدراما التي تُعتبر من أهم الوسائل التي تساعد في تصوير الواقع ونقله وطرح مشاكله، تساهم بتعزيز تهميش هذه الفئة وقلة اعتبارها من الناحية الوجودية، فمعظم الأعمال إما تتمحور حول قصص الحب والمراهقة، أو تطرح مشكلات كبيرة بطرق سطحية، أو بأسلوبٍ مسيسٍ يهدف إلى تحييد فكر المشاهد عن أصول المشكلات وعلتها، مثلما وجدها المتلقي في مسلسل (كسر عظم)، ومع أنّ بعض الأعمال قاربت مشاكل الشباب السوري، لكنها لم تخلُ من السطحية بأي حال، فتمّ تسليط الضوء على حالات الشباب المتورط بتعاطي المخدرات والنصب والسلوكيات العنيفة والهادرة للذات والغير، ورغم وجود مثل هذه الشخصيات في الواقع، إلّا أنّ طريقة تناولها ليست عميقةً كما يجب، ولا تمسُّ علّة المشاكل، إنما طرحت المشكلة بأسلوبٍ سطحيّ ومتطرفٍ في بعض الأحيان لتحقيق المشاهدة الجوفاء، والتي تنتهي أحيانا بإطلاق الأحكام الصارمة بأننا أمام جيل ليس منه رجاء. فهي تعزز نمط التسيب والخمول، وتوحي للشباب بترسيخ حالة اللاجدوى والعدم المتفشية بالأساس، ولا تعرض الكيان الفاعل للشباب وحيويته وطاقاته وإمكاناته الكامنة رغم صعوبة الظروف. عوضاً عن تماهي القائمين على هذه الأعمال بتصوير الفظاعات، كان بإمكانهم التطرّق لبعض قصص النجاح التي أدركها الشباب السوري في أسوأ الظروف وفي أشد حالات الاغتراب، فمثل هذه القصص قد تكون ملهمة لبعض المشاهدين، وقد تُشعل في وعيهم فتيل الأمل للسعي نحو تجاوز الكارثة.
من الاهمال والهدر الى التهميش
وعند ذكر أي قضية تخص الشباب، لا يمكن إغفال دور الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة، في ظل ما وصلت إليه من كثافة وحداثة، فهذه المنابر أصبحت عالم الشباب البديل دون منازع. والتقنيات التي صُمّمت بالأساس لتسهيل الحياة والعمل وزيادة المعرفة والوعي، تحولت في كثير من المواضع إلى وسيلة للهيمنة ونشر الإيديولوجيات السلطوية الدينية أو السياسية التي تركّز على المحرّمات والممنوعات، وهي اليوم تغدو أكثر خطورة في النيل من الفكر والوعي كلما افتقدت إلى المصداقية أو المنهجية العلمية. بهذا يتعرّض الشباب أمام الشاشات إلى الهدر في الوقت والوعي والفكر، وأخيراً إلى هدر الكيان، فُيهدر الوقت في المتابعة المرضيّة بلا هدف لكل ما يلهي ويشتت الذهن، فأول أمرٍ يفعله الغالبية بعد الاستيقاظ هو الإمساك بالهاتف المحمول، وتفقّد الفيس بوك لمعرفة ما فاته من أحداث وأخبار، والبحث المستمر عن اللا شيء على تلك المنصات. ويهدر الوعي والفكر من خلال ما يجتره من معلومات وأفكار دون بذل الجهد في التحليل المنطقي ومراجعة مصداقية ما يقرأه أو يشاهده، فهذه المنصات صُمّمت لتكون منبراً لكلّ عابرٍ دون اعتبار لجودة ومصداقية ومنطقية ما تقدمه. كما يُهدر كيان الشباب أمام الشاشات من خلال التعويض الوهمي لبناء الذات والكيان وخلق وجود افتراضي على تلك المنصات، أو عيش الحياة بالإنابة عبر التماهي مع شخصيّات المشاهير من لاعبي كرة وممثلين ومغنيين، وهنا غالباً ما تنال شبكات التواصل الاجتماعي من وقت الشباب ووعيه وكيانه الذي يتم هدره دون انتباه.
اقرأ أيضاً: قراءة في كتاب التخلف الاجتماعي سايكولوجيا الانسان المقهور

وبحسب درجة الهدر التي يتعرض لها الشباب يقسم “مصطفى حجازي” في دراسته “الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية اجتماعية 2002″ الشباب إلى فئات أربع لكل منها ظروفها وخصائصها وإمكاناتها وأزماتها،” فئة مترفة قليلة العدد، طفليه تفرط في استهلاك المتع والملذات، تجهل العطاء وبذل الجهد، وتعاني الفقر الشعوري لتحقيق الذات والنجاح والانجاز والمعنى. فئة تمثل النخبة حظيت برعاية أسرية عالية وتوعية، تتمتع بهوية النجاح والمفهوم الإيجابي عن الذات، وهي الفئة القليلة الوحيدة التي تفلت من الهدر. فئة طامحة للارتقاء ومكافحة، تتوسل الدراسة والتفوق لتحقق أحلامها وتمكين ذاتها ووضعها، الأكثرية منهم تنحسر أمامهم الفرص ويسيطر عليهم الإحباط واليأس في النهاية، هو الشباب الذي يُهدر مشروعه الوجودي في بناء مكانته، وتزداد أزماته الوجودية بازدياد الشعور بالتهميش وتُهدر فرصته منذ انطلاقته، بسبب سويّة ونوعيّة التعليم المتواضعة، والتي لا تشكل فرصةً قيّمةً لخوض المنافسة في سوق العمل، هذا الشباب الذي يدفع ضريبة وعيه. فئة شباب الظل وهم الأكثر عدداً، وهم فئة مهمشة، فائضة عن الحاجة مُستغنى عنها، لا تدخل في حسبان السلطة ومخططاتها إلّا من ناحية القمع خوفاً من انفجارها، تُحرم هذه الفئة منذ الطفولة من حقوقها في الرعاية والتربية المستحقة والاحتواء والتعليم والتوعية، ويخضع نموّها النفسي والجسدي للحتمية البيولوجية، هم الفئة الأكثر تسرباً من المدرسة ووجوداً في الشارع وتكيفاً معه ومع قوانينه، والمحرومة من تشكيل هوية نجاح مهني وحياتي، والأوفر فرصةً في الجنوح نحو العنف وتبنيه. .
ثقافة الكم

بالمحصلة إنّ اغتراب الشباب هو نتيجة طبيعيّة لعالم لم يجدوا له أي معنى، عالم محكوم بقوانين تنتهك وجودهم عبر استلابات واستلابات متعاقبة، يغذّيها الافراط المسهب للتفاهة، عالم يُنتج العنف ويحرس دورته الجهنميّة، دون أن يفلت من قبضته أحد، وأمام كل ما يحدث، فإنّ ما تصدّره الدراما التلفزيونيّة على الشاشة السورية، وما يمكن أن نراه على وسائل التواصل الاجتماعي، لم يقفا بجديّة على هذا المشهد الكارثي، ولم يتصدّيا للانتهاك العميق الذي يصيب الشباب، فغالباً لم يتعدَّ الأمر سوى الاستثمار الناجح، الذي يحدد الربح فيه طبيعة المحتوى وقوامه، وبهذا فإنّ كل من الدراما والسوشال ميديا ساهما في إرساء ثقافة الكمّ وتعزيزها، حتى باتت هذه الثقافة هي الحليف الأقوى لهدر الإنسان واغترابه.