الحضور الشاحب للمرأة.من اللغة،إلى التاريخ والثقافة

صوفي جيرمان (فرنسا، 1776- 1831) واحدة من الشواهد في تاريخ العلوم. التي أصرت على حلمها في ممارسة الرياضيات رغم حرمانها من الشموع والملابس والتدفئة من قبل والدها، ورغم  عدم قبولها في الأكاديمية الفرنسية للتقانات المتعددة المجهزة لتدريب العلماء. رفضت لأنها امرأة فاستمرت عن طريق المراسلة باسم طالب سابق (انطوان أوغست لابلانك) . ثم تحولت إلى الفيزياء وتركت بصمتها “مذكرات عن اهتزازات الصفائح المرنة” وهي ورقة بحثية وضعت الأسس للنظرية الحديثة للمرونة. 

عند وفاتها وصفت بأنها “متقاعدة” و “امرأة عزباء ليس لها مهنة”  وليس “عالمة رياضيات وفيزياء”.

اللغة والهوية

وعندما بُنيَ برج ايفل نقش عليه اسم إثنان وسبعون عالماً ساهموا ببنائه، ولم ينقش اسم صوفي التي وضعت نظرية مرونة المعادن، ربما لنفس سبب رفض دخولها في الاكاديمية، أي لكونها امرأة. بحسب ما ذكره المؤرخ (اتش جيه موزانس ) عن صوفي، مؤلف كتاب “المرأة في العلوم “.

تبدو هذه القصة غريبة عن عصرنا الحالي ولكنها وقعت نتيجة  ثقافة رسخها التاريخ بلغة ذكورية. وفي يومنا هذا تتوفر معظم أدوات الإبداع والتعلم عالميا للرجال والنساء على حد سواء، نتيجة ظهور أصوات ولغات جديدة طورت الثقافة. لذا نجد المرأة متألقة بإزاء الرجل في كافة المجالات العلمية والفكرية والفلسفية. ولكن لا يخلو العالم الانساني اليوم من بعض الرواسب العالقة من ثقافة الاستلاب والقمع التي تتجلى في حياتنا اليومية ولكي نتخلص من تلك الرواسب لابد من فهم مصدرها وتعديله.

اللغة:

تعتبر اللغة بالغة الأهمية في عملية التنشئة والتربية، فهي الحبر الأوليّ الذي يخط تشكيلاته في  الشخصية، والأداة الأهم في نحت الهوية ُوتنصيب المعايير الأخلاقية، وفقا لما تحمله من مفاهيم. تبدأ اللغة بنحت الهوية بدءاً من الضمير اللّغوي، ويتم معها توّجيه الخطاب وتنصيب المعايير ووضع السمات وتحديد المرجعيات في بيئة التنشئة. فتتشكّل الثقافة وفقاً لما تمليه اللغة،  واللغة لا تخلو من الانحياز النحوي والمعنوي المبني على الجنس. وعلى حد تعبير فتحي المسكيني في كتابه “الجندر الحزين” : نحن نتكلم لغة هي قد تعودت أن تعتبر الذكر هو أصل التجنيس في التعبير عن صيغة الجمع”، كما أنه لا يشار الى الذكور بصيغة التأنيث إلّا إذا كانت ذكور غير عاقلة.  فالرجل  ودون شك تسيّد الكتابة، وكتب التاريخ ونسبه لنفسه. وتربّع على عرش اللغة والكتابة والثقافة، بينما عُلّقت المرأة على الهامش لزمن طويل، واكتفت بحضورها الحسّي الآني ، وبأحسن الأحوال كانت خلف الرجال العظام. 

التاريخ:

التاريخ تسجيلٌ لما تم اعتبار وقوعه، ونسيانٌ لما لم يتم اعتباره. والذي يحدد هذا الاعتبار، ويحدد يقينية الحدث هو الكاتب والمكتوب.  ثم تغيب كل الأحداث عن ساحة المحسوس الحاضر في ماضٍ مجهول. ويبقى كل من الكاتب والمكتوب حاضران غيابياً في النص. وعند قراءة التاريخ؛ يؤثران في رؤية الوقائع الآنية، التي لاتزال في ساحة المحسوس. فكأن ما يحمله لنا تاريخ الحضارات المكتوب، شبيه باللّاوعي المتحكم بساحة الإدراك. وفي الحالتين (أيّ التأريخ و البرمجة العقلية) تستلم اللغة إدارة ما سبق ذكره. وكما يركز من يعمل في مجال علم النفس والسلوك في لاوعي المريض، وفيما يمكن ان يكون قد حفظه ورسخه اللاوعي، لكي يستطيع رصد المظاهر المرضية لوعي الفرد وآلية تفكيره.

حريّ بنا بالمقابل أن نركز في قراءة التاريخ ونتعلم منه بموضوعية فلا نتقمص كاتبه، وانما نفحصه ونتعلم منه لنتمكن من رصد المظاهر اللاإنسانية فيه. فنطور القدرة على رؤية الوقائع الحالية دون انحياز، فنتجنب أدلجة الإنسان الحالي واللاحق ليومنا.

الثقافة:

 حلّ الحضور المذكّر غيابياً وأزلياً في اللغة والتاريخ وأخيراً الثقافة. وغابت الأنثى لقرون خلف المعاني المجردة من أصالتها، وداخل الصور المرسومة بيد خارجية غريبة، هي يد الرجل الذي صوّر المرأة كما رآها وكما أراد لها أن تكون( مربية، رقيقة، ضعيفة). فظلت تدور في فلكه ولم تدرك ذاتاً محورية أو مستقلة لكيانها. وحيث أنّ الثقافة الذكورية، هي النموذج الإبداعي المتاح والممكن لخيال المرأة وطموحها الذهني، ولا خيار سواه، ولم يتشكل بعد بديلاً عن النموذج الذكوري، ظل الرجل يقرأ المرأة ويفسر مشاعرها وأحاسيسها بعينه هو، وبلغته وثقافته هو. وظلت المرأة تكتب بلغة الذكر وثقافته وعلى مقياس مثاله.

نزعة إنسانية

إنّ كل ما تمت الاشارة اليه من لغة وتاريخ وقصص، يهدف أولاً إلى تشجيع النساء اللواتي لم تتسنَ لهن فرصة نفض غبار الأدلجة التاريخية واللغوية عن ذواتهن. فيدركن الغبار أولا، ثم ينفضنه فيحييِّن انسانيتهن، ويجهرنها في مجتمعهن دون تردد أو خجل أو خوف. ويهدف ثانياً إلى إيقاظ مدارك الفاعلين/ات  في عملية التربية،  فيتيقظون لما ارتسم في الذهن دون تفكير أو تمعن.  ويطفئون الحاجة الدائمة للتصريح بأن المرأة إنسان، وليست بناقصة عقل أو برجل ناقص أو أفعى سامة وليست مسترجلة اذا تمكنت. كما أنها ليست مضطرة لتثبت أنوثتها وعفّتها وعقلانيتها في كل مناسبة.  وفي لغتها فصاحة أنثوية أصيلة، توازي فحولة الفصاحة الأصيلة ولا تعارضها ولاتعاديها بل تتحمل معها تأسيس أرضية البناء الحضاري والثقافي . كما أن الرجل إنسان، فليس بذاك الوحش المجرد من العواطف والمشاعر وليس هرقل، أو أطلس الذي يحمل الكرة الأرضية بذراعه فيحميها من السقوط أو الضياع. وليس مضطرا ليثبت رجولته بالتسلط أو بالخروج عن إنسانيته، أو بحمل أعباء الربوبة الذكورية المرهقة. فبالرغم من أنها تعطيه الكثير من الميزات، ولكنها تسلبه جزءا كبيرا من إنسانيته وحريته، وخاصة فيما نجده اليوم من تجلي للثقافة الذكورية فهي تجبره على الدخول في صراعات هادرة للكيان والنفس، وتلاحقه شبهات واتهامات لا تقل سميتها عن الاتهامات الموجه للمرأة .فتوجه أيضا للرجل اتهامات كالبخل وعدم الكفاءة والضعف ولا تُدحض تلك الاتهامات حتى يأتي بالإثباتات الدائمة. ويربى الرجل لكي يتعلم فنون هذه الاثباتات وتهدر سنوات شبابه أمام ذلك في كثير من الأحيان.

ولا بد من الإعتراف أن  مجتمعات اليوم جاوزت الكثير من المظاهر النمطية في تنشئة الإنسان. ولكن لازالت الكثير من الأجيال  تعاني من الرواسب التي تقودنا للتذكير بما قد يكون قد أصبح مسلمات عند بعضها الآخر.

اترك تعليق