المرأة بين الاختلاف الطبيعي والمساواة

د. جمال الشوفي

رغم تحقق المساواة الحقوقية والقانونية والاعتراف بحق المرأة مساوية للرجل مدنياً وسياسياً وقانونياً في دول العالم الحداثي، لكن إلى اليوم لم يزل العنف يمارس بحقها. إذ تشير الأرقام الواردة في تقارير واحصائيات منظمات حقوقية ومدنية متعددة، منها تقرير نشر في DW في 25/11/2021، إلى أن ممارسة العنف ضد المرأة ذو دلالة صادمة حتى في أعتى الديمقراطيات في العالم. فقد ارتفعت جرائم العنف بين الأزواج وشركاء سابقين، والمبلّغ عنها لدى الدوائر الأمنية في ألمانيا في العام 2020 عن سابقتها، وأودت بحياة 139 امرأة و 20 رجلاً كما أحصيت في التقرير المرفق

أعربت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في يوم الإعلان بشأن القضاء على العنف ضد المرأة عن قلقها أن العنف ضد المرأة يمثل عقبة أمام تحقيق المساواة والتنمية والسلم، لما هو انتهاك لحقوق الإنسان والحريات العامة. فيما وثقت منظمة الصحة العالمية في تقريرها المرفق أن هناك امرأة واحدة من كل ثلاث نساء، أي حوالي 736 مليون امرأة، تتعرض أثناء حياتها للعنف البدني أو الجنسي من قِبل الشريك أو للعنف الجنسي من قِبل غير الشريك، وهو عدد لم يتغيّر تقريباً طوال العقد الماضي. وقد أوضح التقرير أن النسبة الأعلى سجلت في بلدان محدودة الدخل، كجنوب آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 37%، أي واحدة من كل أربع نساء تقريباً ممن يعشن في تلك البلدان، بينما جاءت النسبة أقل في أوروبا (16-23%) وآسيا الوسطى (18%).

المثير للاهتمام والمراجعة هو ما قاله المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، (تيدروس أدهانوم غيبريسوس)، إن “العنف ضد النساء منتشر كالوباء في كل البلدان والثقافات”. وهو قول ذو دلالة، لأن العنف ضد النساء لا تحمله ثقافة بعينها، بقدر ما هو منتشر بجميع الثقافات العالمية متقدمة ومتحررة أو متخلفة وعالمثالثية. 

يبدو الأمر إشكالي في المبدأ، فالإحصائيات الكمية تشير إلى أن العنف ضد النساء موجود في كل الثقافات، وإن كان أقل نسبة منها في الثقافات والديمقراطيات الحديثة رغم الوعي الجنسي والتنشئة الاجتماعية المناهضة للعنف والتمييز الجنسي والمترافقة مع التحرر الفردي وتحقيق القوانين الرادعة، لكنه إلى اليوم أكثر ارتباطًا بالنزاع على الملكية والحقوق المكتسبة على مستوى القرار والتصرف، وهذه إحالة واضحة للسلطة والقرار سواء في الأسرة أو المجتمع. مع الأخذ بعين الاعتبار تعريف العنف والابلاغ عنه، إذ أن العنف يحدد بمستويات يبدأ من العنف اللفظي الى الجسدي وجريمة القتل، والإبلاغ عنه يعتبر أحد أهم العقبات الأساسية في إحداث الأثر الإيجابي للقوانين والتشريعات لاسيما في مجتمعاتنا، حيث تعتبر إمكانية الإبلاغ أكثر وصولاً في دول الديمقراطيات الراسخة بفارق كبير. 

الملكية والسلطة

العنف وليد الصراع التاريخي حول الملكية والسلطة. وبعيداً عن السياسة وأنماط الحكم، السلطة هي القدرة على اتخاذ القرار في مؤسسة ما ومنها الأسرة أو العلاقة بين شريكين. فالصراع على الملكية والسلطة هو مولد العنف العام وليس العنف الموجه للنساء فقط. فالأرقام والدراسات الكمية التي وثقتها منظمات عالمية كبرى تشير إلى أنه رغم انتشار الثقافة الجنسية والتنشئة الاجتماعية المحققة للمساواة بين الجنسين في دول العالم الأول، وتحقيق البنى القانونية المستقرة وكفالة الدستور للحريات والحقوق، إلا أنها لم تكن كافية للحد من العنف العام، وإحدى أشكاله الأكثر خطورة هو العنف ضد المرأة.

مفكرو الحداثة، عبر تعزيز العقل التواصلي الإنساني، حاولوا الحد من الأدوات الفكرية التي تؤدي لهيمنة الأداتية والعقل الوظيفي الذي يحول الإنسان لأداة تحطّ من مكانته الإنسانية وتجعله عرضة للاستلاب والعنف. إذ يحدد (يورغن هابرماس) ضرورة “تفكيك البنية الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجت العقل الأداتي ومكنته من الهيمنة على الوعي الفردي والجماعي وأفرزت أزمته”. فالنماذج المشيأة للعلوم تهاجر إلى عالم الحياة الثقافي والاجتماعي، وتتحول لقوة موضوعية عبر الفهم الذاتي الأداتي للحياة التقنية في هيمنته على الحياة الإنسانية وحذف الميزات والصفات الإنسانية والروحية من عالم التواصل الإنساني واستبدالها بأرقام وقوانين.

من جانب آخر، يرى (ميشيل فوكو) أنه “يجب دراسة السلطة، ليس انطلاقاً من حدود بدائية للعلاقة، ذات سمات حقوقية: دولة، قانون، سيادة وهكذا، بل انطلاقاً من العلاقة ذاتها التي تحدد عناصر عملها”، فالسلطة، وأي سلطة تمارس على الأجساد وتخترقها وتبدي مظاهر عنيفة عند ممارستها بشكل تعسفي. ما حذا بــــ (حنة آرندت) للقول إن “جوهر فعل العنف نفسه هو مقولة الغاية والوسيلة، وأن الغاية محاطة بخطر أن تتجاوزها الوسيلة التي تبررها”، فيما أن العنف قد يبرر لكنه لا يملك شرعية كما السلطة. ما جعل الأنظمة المتقدمة تعمل على تطوير القوانين الرادعة للحد من العنف ومع هذا بقي قائمًا وممارساً.

بين الذكورة والأنوثة

ثمة دراسات اجتماعية وسلوكية تحاول تحديد الفرق الطبيعي جنسياً، على ألّا يعتبر تقليلاً أو تعظيماً، بقدر ما هو ذو شأن طبيعي لا يلغيه التطور العلمي العام. ففي كتابه، المرأة بحث في سيكولوجيا الأعماق، يرى (بيير داكو) أن الأنوثة والذكورة حالتان طبيعيتان كل بذاتها، مع وجود عوامل معززة لتفوق الأنوثة عند النساء أكثر منها في الرجال، والعكس صحيح. والحال الطبيعي لهذه الفروق تتجلى بمظاهر متعددة جنسياً وجسمانياً وصفات وسمات. فالأنثى أكثر احتواءً وارتباطاً بالتفصيلات من الذكر لكنها تحمل الحياة بداخلها، فيما الرجل أكثر ارتباطاً بالكليات والعالم الخارجي، لكون الحياة ومولداتها تخرج منه. هذا الفرق لا يغير من مكانة المرأة القانونية والحياتية في مساواتها مع الرجل سياسياً ومدنياً وحقوقياً، لكنه يحيل لجملة من السمات والخصائص تجعل فكرة المساواة الكلية غير منصفة. فيما تحقيق العدالة الإنسانية وإحداها المساواة الحقوقية والسياسية، وإضفاء الفرق الطبيعي عليها في الأدوار الحياتية، وهو ما يمكن أن نسميه العدالة الكونية. فالمبدأ الكوني في الوجود يقول: الأكثر تمايزاً أكثر عمقاً في التكامل. فكلما كان التمايز أقل، كلما تراجع التكامل لدرجة التراتب وفقدان حيوية الحركة والإنتاج والازدهار، وكلما كانت المساواة متطابقة بين الرجل والمرأة فسيؤدي ذلك إلى تقليص الفروق الطبيعة وتساويهما طبيعياً بلا حوافز الحياة. فالرابطة الحيوية قابلة لإكمال سير الحياة عند تحديد التمايزات. فالماء سرّ الحياة، واكتماله من شدة تمايز الأوكسجين عن الهيدروجين وقدرة الرابطة على تحويلهما لمكون حياة؛ فيما كل منهما منفرداً ذو خاصية مختلفة، فالأول للتنفس كما لازدياد الحرائق، فيما الثاني للانفجار والاندماج الطاقي النووي وغير هذا الكثير.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984)

قد يبدو طرح الاختلاف الطبيعي بين الجنسين مثار نقد عريض من الحركات النسوية ومناصريها، إذا ما أخذ منسلخاً عن المساواة الحقوقية. الاختلاف الطبيعي والمساواة الحقوقية إعادة إحياء للأنوثة ومناصر للمرأة وحقوقها من زاوية أكثر اتساعاً من التنافس الحاد على المساواة المطلقة. فهو فعل يؤكد على الاختلاف مولد الديموقراطية، وعلى التمايز مولد التكامل، وعلى الفرق مولد للحقائق المعرفية، وعلى المعنى المولد للحب والحنان، وعلى المساواة الحقوقية العامة كخلاصة سياسية واجتماعية. 

وحتى لا نقع في موقع التعميم، يمكن اجراء دراسات كمية ووصفية واسعة، سواء لدراسة الأسباب المولدة للعنف ضد النساء ومدى ارتباطها بالنزاع حول الملكية والسلطة ومنها النزاع حول الحقوق الطبيعية أو المفترض كسبها زمنياً؛ ودراسات أخرى في ذات الاتجاه تستطيع التحديد المعياري لمدى أهمية الفروق الطبيعية بين الجنسين وأثرها على الاستقرار والتكامل والحنان والحب، وأهميته بتقليل حدة الحياة الشيئية والرقمية المتنامية مع التقنية والعصر الأداتي الحالي. ما يمكنه أن يضاف إلى سؤال مركزي حول الوعي الجنسي كشرط لازم لفهم التكامل بين الذكورة والأنوثة، ويستوجب ذلك إعادة التفكير والتقييم في التنشئة الاجتماعية والجنسية في مجتمعاتنا التي لم تحقق التحول الديمقراطى، ولا تزال بعيدة عن الإصلاحات القانونية والتشريعات التي تعزز المساواة وتدعم حقوق المرأة على وجه التحديد. مع بقاء السؤال هل هي كافية؟

اترك تعليق

الكاتب

اقرأ أيضا

تابعنا

شارك المقال