المرأة والرواية

نشوء الرواية وحضور النساء

                                                                                                          

الكاتب و الروائي ممدوح عزام

 يرتبط تاريخ نشوء الرواية بتاريخ تحرر المرأة عموماً، هذا هو أحد العوامل التي يضعها الناقد الإنكليزي “إيان وات” في كتابه ” نشوء الرواية” ضمن مجموعة أخرى ساهمت في منح هذا النوع الأدبي قوة الحضور الجديد، والبقاء والاستمرار في الوجود.

يرسم “إيان وات” صورة شديدة البؤس للمجتمع الإنكليزي في القرن الثامن عشر، أو في النصف الأول من ذلك القرن، حيث كانت الأميّة تكاد تكون سائدة، وحيث يعجز الفقراء عن تسديد أقساط المدارس التي كانت تفتتحها سيدات ثريات، أو جمعيات خيرية، بل إنّ السلطات الحاكمة كانت قد أصدرت مرسوماً يضع ضريبة على النوافذ، وكلما زادت فتحة النافذة، ازدادت الضريبة، وبسبب هذا اضطر الكثير من الناس إلى تصغير فتحات النوافذ في بيوتهم، ويمكن أن نستنتج بعد ذلك ماذا حدث لمسألة الإضاءة، وقدرة سكان البيوت على القيام بالأعمال التي تتطلب النور والضوء. غير أنّ البؤس كان من الجانب الآخر يضغط على حياة الناس، وخاصة تلك الطبقات الفقيرة التي كانت الأسرة كلّها تعمل كلّ الوقت على إنتاج معظم ما يحتاجونه داخل المنازل، ممّا يستلزم إشغال الوقت بالكامل في هذه الأنشطة من قبل معظم أفراد الأسرة، وسوف يقع الحمل الأساسي على عاتق الأبوين. كانت البيوت تنتج كلّ شيء، الغزل والحياكة والخبز والتخمير والشموع ــ ذلك أن البيوت كانت محرومة من الإضاءة، وكان ثمن الشمع باهظاً يرغم الفقراء، ومتوسطي الحال، على الانخراط في صناعته. بل كان معظم الناس يعتبرونه من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنهاـــ والصابون، وغير ذلك من أساسيات بسيطة يمكن إنتاجها داخل المنازل.  

ماذا حدث بعد ذلك؟ ليس من المستغرب أن يكون البلد الذي شهد أول الثورات الصناعية، هو البلد الذي شهد ظهور، أو نشوء الرواية. إنه بريطانيا نفسها. أمّا الثورة الصناعية فإنّ أهمّ ما حققته فيما يخص موضوع المقالة هنا، هو أنّها استطاعت أنّ تجعل المكائن تحلُّ محل العمل البيتي. وفي التعريف الذي يقدمه “إيريك هوبزباوم“، في كتاب “عصر الثورة”، يلحّ على مسألة الحرية العامة التي حققتها الثورة الصناعية، إذ أنّها بحسب تعريفه: “أسقطت للمرة الأولى في التاريخ الإنساني، الأغلال التي كانت تكبّل القوّة الإنتاجية للمجتمعات البشرية”، وقال أيضاً إنّ المجتمع البورجوازي (الناشئ في ذلك الحين) أدخل تعديلاً جذرياً على وجود الفنان، وأنماط الإبداع لديه، بحيث مثلت الرواية ــــ مجموعة روايات “الكوميديا الإنسانية” لبلزاك مثلاً ـــ واحداً من المعالم البارزة لنمو الوعي الاجتماعي.

وما الفائدة التي جنتها النساء إذن من تلك الثورة؟ إنه الوقت أولاً. إذ بينما كانت النساء مكبّلات بأشغال البيت، بحيث لا يتسنى لهنَّ أيّ وقت فراغ يمكن من خلاله تدبير أنشطةٍ تخصهنّ وحدهنّ، أو تخصّ كلّ واحدة على حدة، فإنّ الصناعة قد منحتهنّ دون أن تتعمد ذلك بالطبع، وإنّما عبر السياق، الذي ولدته ثورة الصناعة، الوقتَ الضروري لأنشطة أخرى غير العمل. لم يعدنَ مرغماتٍ على إنتاج الحاجات البيتية، لا الصابون، ولا الشموع، ولا الخبز، ولا الخمائر، ولا المنسوجات. غير أنّ ذلك كلّه يمكن أن يُجمع في قيمةٍ واحدةٍ لم تكن متوفرة من قبل، وهي: الوقت، وقت الفراغ. إنّه الوقت الذي يفكر فيه المرء بنفسه، وقت الراحة، والبحث عن خدمات الروح. 

دانييل ديفو- مؤسس الرواية الانكيزية

وما علاقة هذا كلّه بالرواية؟ كانت بريطانيا مهدَ نشوءِ هذا الجنس الأدبي، أّما الروائيّ الأول الذي يضعه تاريخ الأدب الروائي في المقدمة، فهو “دانييل ديفو” وروايته “مول فلاندرز”، بينما يستقر كل من “صمويل ريتشاردسون“، و”هنري فيلدنغ” في العربة الثانية. ولـ “ريتشاردسون” روايتان شهيرتان هما ” باميلا” و ” كلاريسا”، بينما يشتهر “فيلدنغ” برواية “توم جونز“. اللّافت هنا، أن تكون بطلات الروايات الأولى هنّ النساء، بل إنّ “إيان وات” يقول في كتابه: “إنّ باميلا بطلة رواية ريتشاردسون، يمكن أن تعد بطلة ثقافية لجماعة ضخمة من النساء هنّ الخادمات المتأدبات، وقد استطاعت بفضل القراءة أن تقتحم حواجز المجتمع والأدب على حدّ سواء”. كيف؟ كان وقت الفراغ الذي منحته الثورة الصناعية للنساء، هو العامل الأساسي في قدرتهنّ على القراءة، أضف إلى ذلك التحسن الملحوظ في مستوى المعيشة، وفي زيادة الدخل الذي يتيح لهنّ شراءَ الكتاب، أو الصحيفة التي تنشر الرواية. 

ربما يمكن وضع الأمر في صورة العرض والطلب، فمطالب النساء اللواتي تفرغن للقراءة، من الوقت الذي اكتسبنه في بيوتهن، بفضل الثورة الصناعية، أفضى بالناشرين إلى ترغيب الكتّاب بالنمط الجديد، أو النوع الأدبي الجديد، الذي بات يمنح النساء المتعة والتسلية أيضاً في وقت الفراغ، في حين كنَّ ممنوعات تقريباً من ممارسة السياسة، أو الأعمال، أو إدارة ملكياتهن، كما كانت ممنوعة عليهنّ النشاطات الذكورية مثل الصيد والشرب. ولهذا نشأت على هامش ذلك الاهتمام الصفحاتُ التي تنشر الروايات مسلسلةً في الجرائد اليومية، والأسبوعية، حيث وجدت تلك القارئات النهمات.

رواية دانييل ديفو مول فلاندرز

سوف يبرز هنا الجانب الإحصائي فقط، أي أنّ دور النساء كان يكمن في أنّ إقبالهن على القراءة حقق فرقاً كمياً في إنتاج النوع الأدبي الجديد، لا في تحديد قيمته الفنية أو الفكرية. وبهذا المعنى فإنّ النساء شكلنّ رافعةَ إنتاجٍ ـــ إذا جاز التعبيرـــ للرواية، التي سوف تحقق قيمتها الفنية عبر التراكم الكمّي، الذي تشجعه القارئات، والتجربة الخاصة للروائيين، كلّ على حدة. غير أنّ القارئات كنّ هنّ النساء اللواتي دخلن التاريخ الإنساني من جديد، وقد بدأت مشاركتهن في صنع التاريخ تتجدد. 

يذكر “إيان وات” دور النساء في نشوء الرواية، أمّا تاريخ الرواية فيقول: إنّ الرواية كانت تمنح الفرد، والمرأة بوجه خاص، أي المرأة كشخصية روائية تمثل الوجه الجديد لها، قيمتها الإنسانية وفردانيتها، التي تتيح لها الظهور كشخصية مستقلة تملك إسماً. 

اترك تعليق

الكاتب

اقرأ أيضا

تابعنا

شارك المقال