
ينتحر الأستاذ توفيق والد فيديل في رواية (بيت حُدد) للروائي فادي عزام، ليطرح علينا خيارًا ثالثًا قلما تطرق له علم النفس، ولا أدري إن كان الأدب قد عالجه بالشكل الكافي. وبحسب علمي ومعرفتي، فإن هذا الخيار لم تعالجه أية رواية أو عمل أدبي حتى الآن، وأنا هنا أزعم أن هذا الحدث كان حدثًا روائيًا أساسيًا في الرواية مع أنه مرَّ بشكل عَرَضي ولم يظهر أن الرواية بنيت على أنه حدث فاعل فيها، أو موجه لباقي الأحداث، لكني أرى أنه حدث أساسي، برمزيته، وعمقه الرمزي، بُنيت بموجبه شخصيات الأبطال وبشكل خاص شخصيتي فيديل وأنيس، كما بنيت عليه الأحداث المفصلية في الرواية، فكان هذا الحدث موجِهاً عميقًا لسير أحداث الرواية حسب ما نرى من دلالات، وبشكل خاص عندما نسقط هذه الدلالات على واقع الثورة السورية ونخبها.
تخبرنا نظريات علم النفس، والأعمال الأدبية ذات الصلة، أن هناك طريقتين تتعامل بهما النفس البشرية مع الأب، واقعيًا ورمزيًا، فإما أن يغتال المرء أباه ليستطيع أن يبني مجده الخاص (عقدة أوديب) أو أن يعيش في جلباب أبيه محافظًا على موروثه ومتمسكًا به، وبيت حدد تطرح علينا خيارًا ثالثًا هو انتحار الأب، هذا الخيار الذي يعبر عن رغبة حقيقية في التخلص من موروث الأب، لكن من دون الجرأة الكاملة في اغتياله، أي هناك رغبة في التخلص من الأب لكن ليس هناك جرأة في تنفيذ هذه الرغبة، فحصل الانتحار.
هذا الحدث الروائي في بيت حدد المنقطع سردًا وحبكة وأحداثًا عما بعده، يكشف لنا الأرضية العامة التي انتظمت عليها الرواية، والبنية النفسية العميقة لأبطالها، هذا كله من جهة، ومن جهة ثانية، يكشف لنا الأرضية المعرفية للعقل الجمعي للنخب السورية، وقد يفسر كثيرًا من سلوكياتها ومواقفها إزاء الثورة، فنحن إزاء ثورة نخبها تقف في منطقة رمادية معرفيًا، لم تستطع أن تنجز القطع المعرفي مع التراث، ولم تستطع أن تتبنى التراث وتنتمي إليه، لذلك فنحن نرى أن بيت حدد شكلت العمل الأدبي الأصدق في التعبير عن واقع الحال للثورة والمجتمع، وفي التعبير عن النخبة السورية ووعيها بوصفها نخبة متشظية الوعي.
ازدواج الشخصيات، أم عجزها؟!
إن الرواية وأبطالها وأحداثها من جهة، والثورة وأحداثها ونخبها في الواقع من جهة موازية هم حصيلة هذا الخيار الثالث، خيار الرغبة في التخلص من الأب، من دون امتلاك الشجاعة الكافية لإنجاز هذا الاغتيال رمزيًا أو واقعيًا، فحضر موروث الأب حضورًا كثيفًا ومربكًا وثقيلًا، وغابت روحه، روح الأب، قيمته، فضائله.
إن إسقاطات رمزية الأب المنتحر على واقع الثورة السورية ونخبها يعطي قيمة مضافة لهذه الرمزية التي تعبر بشكل حقيقي عن أزمة وعي عامة عند النخب السورية التي تصدرت مشهد الثورة، ذلك أن عدم الشجاعة على اغتيال الأب من جهة، وعدم القدرة على العيش بكنفه وموروثه من جهة ثانية، كانا سببًا رئيسًا من أسباب شقاء الوعي النخبوي السوري، وكانا عاملًا حاسمًا في ظهور الشكل الطفولي في هذا الوعي، ووصف طفولي نراه وصفًا مناسبًا لأنه وعي يمتلك الرغبة لكنه لا يمتلك شجاعة تنفيذها، يمتلك الدهشة لكنه لا يمتلك قدرة تفسيرها، يمتلك القدرة على العبث، لكنه لا يمتلك أدوات ووسائل الجدية، فهو وعي عابث غير جدي، مندهش ولا يعلم أسباب دهشته، ويرغب دون أن يمتلك القدرة على تنفيذ رغباته.
على طول خط الرواية تطالعنا أحداثها بتعبيرات واضحة عن هذا الوعي، فازدواج الشخصية ظهر مرتين، مرة في شخصية البطل فيديل/فضل صاحب الاسمين بدلالاتهما الإسلامية (فضل) والشيوعية (فيديل) وبتقلبات هذه الشخصية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ومرة أخرى بشخصية ذاك الداعشي الذي كان شيوعيًا عاشقًا قبل الثورة وأصبح داعشيًا، وطفولية الوعي رافقت خيارات الدكتور أنيس عندما تصور أنه قادر على عدم بيع البيت (بيت حدد) ثم تبين أنه عاجز ليس فقط عن الاحتفاظ بالبيت لكنه عاجز عن المحافظة على الإنسان داخله، عاجز عن مقاومة التوحش والامتناع عن أكل لحم البشر. تستمر طفولية الوعي لتظهر في نهاية الرواية بهؤلاء الذين يعملون على طباعة الوثائق والصور للمحافظة على الموروث والهوية، ظنًا منهم أن التوثيق والنشر عملًا كافيًا للمحافظة على بيت حدد ورمزيته، والأهم أن هذا العمل يحصل في الخارج ولا يحصل داخل سوريا، فأية هوية هذه التي نصنعها خارج حدودها؟ وأي وعي هذا الذي يظن أن العمل من خارج البلد يعيض عن العمل من داخله ويشكل بديلًا كافيًا عنه، وأنه ليس مجرد رديف فقط أوسند لما يحصل في الداخل.
يمكن لنا أن نتتبع المسارات -بما يسمح المجال لنا-التي عبرت فيها أحداث الرواية عن رمزية الأب المنتحر، كما يمكن لنا أن نتتبع المواقف والانفعالات التي تعبر عن أن شخصيات الرواية هم هؤلاء الأشخاص الذين لا يملكون شجاعة قتل الأب كما أنهم وبنفس الوقت لا يملكون الرغبة في أن يعيشوا بجلبابه، كما أن هناك مسارات في الرواية تثبت أن المؤلف حي، لم يمت، حسب تعبير رولان بارت.
“وهذه برأينا إحدى معضلات الرواية العربية بشكل عام، وقد نفرد مقالًا لتتبع هذه المسارات فيما يخص الكاتب، لكن هنا سنلتزم فيما يخص الرواية كنص مستقل عن كاتبه”
العنوان..

بيت حدد: عنوان رمزي يرمز لتراث وتاريخ طويل وغني، والأب بالعموم يرمز للتراث والموروث، عاد أنيس من لندن ليبيع البيت (ليتخلص من موروثه) لكن الصدفة (المرأة، سامية) تجعله يغير قراره فيتمسك بالبيت، فتدور الأحداث ليخسر البيت وحريته ثم يخسر حياته وهذا تكرار رمزي للانتحار حيث كانت النتيجة أنه تخلص من البيت (الموروث، الأب) لكن ليس بخياره ولا بإرادته.
الأبطال الرئيسون
أبطال الرواية الرئيسون هم أربع شخصيات ، رجلان (فيديل والدكتور أنيس) وامرأتان (الدكتورة ليل والمحامية سامية)، الرجلان مغتربان، والامرأتان مقيمتان، يعود الرجلان وسبب عودتهما هو البيت برمزيته (الموروث) وكلاهما ينويان تغيير هوية هذا الموروث (أنيس يريد بيعه، وفيديل يريد الإعلان عن تحويله لمشفى سياحي)، يخسر البطلان حريتهما، ثم يخسران حياتهما، الامرأتان ترفضان -كل من موقعها- تغيير هوية البيت، سامية ترفض لحماية الآثار وليل ترفض بعد أن أدركت أن الثمن المعروض عليها هو أن تخسر شرفها، تدور الأحداث فتنجو سامية وليل وتخرجان خارج سوريا، هذا صراع رمزي بين الأب (البطلين) والأم( المرأتين) نتيجته نجاة الأم وموت الأب، واللافت أن موت الأب هنا كان بقرار منه ليحمي الأم أي هو شكل آخر من أشكال الانتحار.
شخصيات ثانوية
شخصيتان ثانويتان ساهمتا برسم ملامح وسمات شخصية ليل:
-والد الدكتورة ليل: تخلى عنها بعد فضيحتها مع فيديل وفعل التخلي هو انتحار رمزي، فالأب رمز الحماية عند ابنته، فعندما يتخلى عن هذا الموقع سيموت في نظرها حكمًا.
-زوج ليل: هو الآخر تخلى عنها، بل سهل لسعد أن يختلي بها، وهذا أيضًا موت انتحاري لرمزية الزوج الذكورية التي تحيل على رمزية الأب.
لا أظن أن المجال يسمح لنا. بالتوسع أكثر لتتبع مسارات إضافية توضح مركزية (الأب المنتحر) كرمز مكثف لهذا العمل الروائي، لكن أظن أن أحد العناوين التي قد تشكل عنوانًا مناسبًا لهذه الرواية هو عنوان (الأب المنتحر)، هذا عمل أدبي وضعنا أمام مسارات ومعان وتجليات لكيفية ظهور هذه الرمزية (الأب المنتحر) ظهورًا واقعيًا وباللحم الحي.
الأساطير هي روايات الأولين، والروايات الناضجة هي أساطير المعاصرين، رواية بيت حدد رواية ناضجة، يمكن ويجب قراءتها بطريقة قراءة الأساطير، قراءة رمزية، تفكك رموزها وتبسطها لتعكس لنا واقع الحال، وتساعدنا على فهم العمق الإنساني في إنساننا المعاصر، ما قلته أعلاه هو محاولة في هذا السياق، سياق القراءة الرمزية لعمل روائي ناضج، ورواية بيت حدد- وكل رواية ناضجة- تضج بالرموز المعرفية التي يجب تفكيكها وقراءتها قراءة تليق بمستوى نضج العمل.
بيت حدد رواية وضعتنا أمام خيار مسكوت عنه، لكنه خيار يشكل مفتاحاً رمزياً لفهم العمق المعرفي للنخبة السورية، خيار انتحار الأب هو خيار الوعي العاجز الذي ما لبث أن عبر عن شقائه وطفوليته بمجرد أن اتاحت له الثورة أن يعبر عن نفسه.