كان “سيث” ملاكاً مُنح الخلود، كان روحاً بلا جسد، روحاً سابحة في فضاء البشر، ويعرف أنّ الموت هو طبيعة وليس شراً، ناجياً منه يعيش “سيث” في المكتبات، قرأ كل موسوعات البشر، ومن كلِّ آلاف الكتب ظفر بلبه “هيمنغواي“، بات أسيره، يقول سيث للطبيبة: “صفي لي طعم الدراق كما يصفه هيمنغواي”، كان توَّاقاً لكل هذه المشاعر، يقرأها ولايعيشها، يرى كم الفن الهائل بأبسط المشاعر دون أن يعرف متعتها، ليصل سيث إلى نتيجة أن الحياة لامعنى لها بدون جسد، أن الجسد هو الوسيط بين تنبيهات العالم الخارجي والشعور العميق بالجمال، أن الجسد هو الوسيط بين استثارات العالم الداخلي “الروح”، وبين الاستمتاع بأقصى درجات اللذة. سيث توَّاق لكل دافئ في أيام البرد، ولكل بارد في أيام الحرّ، لضمّ حبيبة والشعور بأنفاسها، لرائحة البحر، للطيران على سطحه، توَّاق للحزن، كما شغفه بكيف يكون الفرح، حاسداً البشر على كل لذة وكل كدر تمنحها لهم أجسادهم، حواسهم تلك الحواس التي هي أكثر من وظائف عضوية، بل هي ممرات جهازهم النفسي للشعور بكل جمال.. سيث في الفيلم الرائع “مدينة الملائكة”1 ضحّى بالخلود ليمتلك جسداً يتعرف من خلاله على التوظيف الطاقي لغريزة الحياة، أو للمفهوم الذي نحته فرويد بكل عبقرية “الايروسية”.

الإيروسية2:”تعقيد الحياة بتوحيدها” هذا ما يصل له فرويد بآخر معنى من معانيها، على الضدّ من غريزة الموت “تبسيط الحياة بتفتيتها”. قبل هذه النهاية هناك بداية، بدايةٌ تصل لأول ظهور حياتي على مستوى الفرد وعلى مستوى النوع، ولأن كل تقدم هو عودة إلى “البدء” مع إمكانات جديدة،” البداية تؤسس”، وبدون فهمها سيكون هناك تخبّط في معرفة المسار، ما ستؤول إليه بنيان الشخصية. الطفل في أيامه وأشهره وسنواته الأولى تحكمُه الغريزة الأعلى وهي غريزة حفظ الذات، الأقوى الأعلى وهي الحاكم، وهذه الغريزة ككلّ الغرائز ليست مكتسبة هي طبيعة وبنية، وأول الوظائف العضوية المحكومة بهذه الغريزة هي الرضاعة. إن التوتر الداخلي الذي يحدث بفعل الجوع يلاقي انفراجاً عند الرضاعة، هذه الآلية توتر/انفراج، هي أول خبرة نفسية يتعرف عليها الطفل، خبرة يترافق فيها التوتر بالشعور بالكدر، والانفراج شعور باللذة، هذه الخبرة الطفلية الأولية سيجدها الطفل بكل الوظائف العضوية، توتر وكدر يليها انفراج ولذة.. هذا أولاً، ثانياً كل ارتفاع بالتوتر يشحن الدافع الغريزي بمزيد من الطاقة، والتي تبحث عن انفراج أي تفريغ لهذه الطاقة، وسنرى أنّ التفريغ للطاقة المذكورة، إن لم يتمّ بشكل طبيعي، سيبحث هذا الدافع عن بدائل وسنسرع بالقول: إنّ هذه البدائل هي تفريغ منقوص أو إشباع منقوص، لكنها تنحو منحى الضرورة وهذه هي الخبرة الطفلية الثانية التي تستوطن جهازه النفسي، أمّا الخبرة الثالثة فهي تعرّفه على الواقع الخارجي بأنه حقيقةٌ ليست دائماً على مقاس طلباته. إنّ الواقع الخارجي يقسو بشكل من الأشكال على مطلبه الداخلي، هذا الواقع الذي يصنع نواة إدراكه، ونواة شعوره بأول تعارضٍ بين مبدأين، مبدأ اللذة ومبدأ الواقع.

من جهة أخرى تربط عملية الرضاعة نوعين من التنبيهات العصبية، خفض توتر طاقة الدافع الغريزي المتمثل بطلب الغذاء، والتنبيه الثاني يكون في الأغشية المخاطية للشفتين والشعور بدفء الحليب، احتضان الأم، دقات قلبها، وسماع أنفاسها، الأول مشترك بين كلّ الكائنات الحيّة، أمّا الثاني فهو يختص بالبشر وهو بالضبط استشعار أولُ ميل “ايروسي”، فرويد يقول هي بداية “الحياة الجنسية”، لأن النتيجة هي لذّة، وهي تؤسس لأول ميلٍ انحرافي في الحياة الإنسانية عندما يسعى الطفل للاحتفاظ بالثاني عند اخفاقه بالأول بسبب غياب الأم أو انشغالها أو عند الفطام. الميل “الايروسي” يستوطن في الجهاز النفسي ويستقل بذاته باحثاً عن تحصيل لذة “مص الإصبع، مص كل ما يمسك بيده”، ويصبح الفم أول منطقة شهوية جنسية، تعبّر عن ميل “ايروسي”. عبر وظائفه العضوية المتعددة يتعرف الطفل على مناطق شهوية أخرى في جسده، مثل وظائف الإخراج بنوعيها، ويُصبح لهذه المناطق أهمية خاصة بما تحققه للطفل من مشاعر خاصة عبر آليات تشبه آلية الإرضاع وتتطابق معها، ليعلن فرويد أن للطفل حياة جنسية ــــ جنسية وليست تناسلية ـــــ تتعارض مع مقتضيات التربية التي تُمثل عالم الواقع، ويرسم فرويد الحياة النفسية بأنها مجموعة من السيرورات الخاضعة لمبدأين، مبدأ اللذة وهو تعبير عن ميول ايروسية تحاول أن تُشبع عبر المناطق الشهوية من جهة، يعارضه مبدأ الواقع من جهة أخرى. ليضيف فرويد أهمّ وأكبر قاعدة في التحليل النفسي، أن تلك الميول تفرض نفسها كحاجات قابلة للتحويل أو الكبت أو إيجاد البدائل، وهي حاجات لأنها تفريغ لأكبر خزانٍ طاقيٍ أسماه “الليبيدو”3. “الليبيدو ” عند فرويد قابلٌ لنزع الصفة الجنسية عنه في عملية اسمها “التصعيد”، وفي ترجمات أخرى “الإسماء”، ولنا عودة إلى ذلك.
الحياة الجنسية الطفلية:
أحد أهم اكتشافات التحليل النفسي أنّ للطفل حياة جنسية، وأن “الجنسي” ليس فقط محصور بالبلوغ، وأهم مادة كانت لاستنتاج أنّ للطفل حياة جنسية، هي مجموع الانحرافات الجنسية عند البلوغ، بما هي نكوص لخبرات طفلية لذيّة قديمة. الانحراف والذي هو سلوك غريب ينهجه الشخص كعنوان لحياته الجنسية، “السادية والمازوخية، المثلية، اشتهاء الأموات أو الحيوانات أو الأطفال، إدمان العادة السرية … الخ”، هذه الانحرافات لاقت ما يشبهها في مراحل الطفولة، وكأن تثبيتاً ما حصل على أحداها، أو ربما نكوص تالي لانسدادٍ أمام تفريغ طاقة الليبيدو، وهذا موضوع طويل يستحق بحثاً بمفرده، ما يهمنا الآن أنّ الحياة الجنسية الطفلية تمتاز بميزتين تختلفان عن الحياة الجنسية للبالغ.
الميزة الأولى أنّ الإيروسية ذاتية، التي هي علاقة ذاتٍ مع نفسها، وليس هناك استمتاع مشترك مع آخر مختار، الطفل يُمتِّع نفسه، يلعب بأعضائه، الآخر حاضر كأخيولة، أو غائب بالتمام أو هو موضوع وليس ذات، على عكس البالغ السوي إيروسيته غيريّة، هناك شريك وهناك استمتاع مشترك، ولنزد أيضاً هناك آخر متمم مُكمِّل تحتويهما عاطفة. الميزة الثانية أنّ الدوافع الجنسية هي ميول ايروسية جزئية، “ثدي، تلصص، رغبة بالتعري، مص، كأمثلة” هذا الجزئي مكتفي بذاته، الميول جزئية ومفصولة عن بعضها، وبالعكس عند البالغ كلّ ميلٍ يستحضر ميلاً آخر، “القبلة يتلوها ضمّة ثم تعري ثم ثم”، كل ميل يستولد ميلاً آخر، بينما عند الطفل الجزئي يبقى جزء قد اكتفى بذاته ويُشبع نفسه بطريقته، والتي قد تكون مباشرة أو مُحوَّلة.
هاتان الميزتان تسمان الحياة الجنسية الطفلية، كما أنّهما بالضبط تسمان الحياة الجنسية للمُنحرف، كما تسمان الحياة الجنسية للعُصابي بآليةٍ أعقد، لسنا هنا بصددها لأنها تحتاج لبحث كبير ومستقل، لكن سريعاً يقول “فرويد”: إنّ العصاب والانحراف وجهان لعملة واحدة، هناك تثبيت على ميل جزئي معين، مكبوت عند العصابي، لكنه فاعل كمكبوت ويُشبع نفسه ببديل هو العرض العُصابي، “الهيستريا”، أو “الوسواس القهري” كأمثلة”، أمّا عند الانحرافي هو غير مكبوت، ويُشبع نفسه مباشرة دون أي بديل.
ما يهمنا في التربية هو الخوف من خطر التثبيت. إن القمع المفرط لميل أو التشجيع له يجعل تثبيته ممكناً، ليحتل في حياة البالغ فيما بعد صدارة حياته، ومن أكثر الأمثلة- للتوضيح – شيوعاً هو القمع المفرط لرغبة الطفل بالتعري، والتي تُكبت خوفاً بشدة، فتتظاهر في البلوغ في “الاستعراض”، والذي هو أكثر تواتراً في عالمنا “هوس التصوير وهوس عرض الانجازات”، وفي حيز التشجيع، إنّ الترحيب الشديد (بفرفورة) الطفل يتظاهر غالباً بنرجسية مفرطة عند البلوغ، نرجسية ذكورية ساديّة اتجاه الأنثى.

وهناك تشجيع من نوع آخر يُمارس عندنا بكثرة، وسأغامر هنا مُستنداً على “فرويد” الذي ثار على نفسه عام 1919 في كتابه” ما فوق مبدأ اللذة “، الكتاب الذي خالفه الكثيرون، وتبنته رموز كبيرة في التحليل النفسي كـ “جاك لاكان“، واعتبره الكتاب الأكثر صعوبة والأكثر غموضاً، الكتاب فيه الكثير من تطوير وتغيير لمبدأ اللذة، وأن هناك في النفس ما هو فوق مبدأ اللذة. إنّ الليبيدو قابل لنزع الصفة الجنسية عنه، فطاقته التي تبحث عن تفريغ بممرات جنسية، يُمْكِن أن تُفرَّغ بممرات أكثر حياتية وأوسع وأشمل، كون الليبيدو قابل لنزع الصفة الجنسية عنه، فالطفل المحبوس في بيته وغير المكترث فيه، ليس أمامه سوى ممراته الجنسية، وهنا بالضبط خطر التثبت عليها، أو النكوص لها كممرات مجربة عند أيّ انسدادٍ حياتي بعد البلوغ، بينما الطفل الذي يمارس أنشطة حياتية مختلفة كالرياضة والموسيقى والرقص والركض و”التعرف” على الطبيعة يُخفف وبدرجة كبيرة تلك الممرات الجنسية، وبمعنى أدق وأكثر وضوحا،ً هجرُ تلك الممرات قدر الإمكان يقي من التثبيت عليها، وترك هذه الممرات هي الوحيدة لتفريغ طاقة الليبيدو، يزيد من احتمالية استيطانها للجهاز النفسي.
فهناك إيروسية حياتية عظيمة تنمي إحساس الطفل بالجمال بعيدةٌ كلّ البعد عن الإيروسية الجنسية وتنافسها، وإذا صحّ قول فرويد ونبني عليه هنا: إنّ الطاقة قابلة للسحب من مكان وإعادة توظيفها في مكان آخر.
لكن لماذا كل هذا الخوف من التثبيت؟ وهل الحياة الجنسية شرّ؟
إنّ التثبيت أو النكوص للميول الطفلية الجنسية، يصادر كلّ إيروسية، والتي هي حياة وبهجة وتفتح وتوكيد الإنسان لكل قدراته، تلك الميول هي هدم لاحق إذا ما استمرت، ولنتذكر أنّ أول سماتها الآخر ليس ذات، هو موضوع، هو مكون من أجزاء، “ثدي وجسم، ومهبل وو”. إنّ تعقيد الحياة الذي يصف فيه فرويد الإيروسية، أنّ البشر مختلفون، أنّ الاختيار يكون لتفرد ما بهذا الشخص، أنّ الشريك فيه من الفرادة التي أراها غير موجودة في الآخرين، بينما الموت والإعدام هو بمدحلة المساواة والتطابق بينهم، والتي هي أهمّ سمات غريزة الموت، إعادة المعقد إلى بسيطٍ، يجعله مكوناً من أجزاءَ وذراتٍ، الآخر موضوع ومكون من أجزاء مُشتهاة، هي إماتة لاواعية له، هي ظهور النيكروفيليا كأخطر انحراف جنسي وحياتي أيضاً.
والسمة الثانية في الحياة الجنسية للطفل هي دوافع جزئية مستقلة عن بعضها، وفي الحالة السويّة تبقى هذه الدوافع، لكنها تلتحم مع بعضها في البلوغ، وتتزعمها الأعضاء التناسلية في التفريغ الاخير. إنّ التثبيت على الحالة الطفلية معناه بقاءها مجزأةً، وهذا ما يدعى بالانفكاك الغريزي، كأن تنفصل الساديّة عن باقي الدوافع، لتنتج منحرف يستمتع بالتعذيب والعدوان، أو كالذي يستمتع بحضن زوجته وأطفاله بالنهار ويعذِّب الناس في الليل. إن التحام الدوافع الغريزية عند البلوغ، يُنحِّي كلّ دافع في أن يستقل ليصنع باستقلاله مجرماً صغيراً.
في كتابيه “ماوراء مبدأ اللذة” و “الأنا والهو” يستبدل فرويد الخريطة النفسية، والتي كانت “مبدأ اللذة ومبدأ الواقع” بخريطة أكثر عمقاً، “غريزة الحياة الإيروسية، وغريزة الموت”، غريزة الموت التي تعتمد بشكل رئيسي على “الدافع القهري للتكرار” إعادة التجارب المؤلمة السابقة إن كانت تاليةً لرضٍّ، أو إعادةَ الخبرات الطفلية، أي أن الإيروسية الطفلية إذا ما تثبت، فهي تعادي مضمونها وتصبح في خدمة غريزة الموت والهدم والعدوان والتفتيت، عبر تحويل الكلّي المتفرد العظيم إلى أجزاء، وبالتالي إعدامه ثم اشتهاؤه كميتٍ، بينما الإيروسية الحقّة هي نضوج الروح، هي “سيث” الذي أمتلك جسداً يتحسس من خلاله كل بهجة وتفتح. وقد يصدمنا هذا القول لفرويد :”إن الحياة الغريزية بجملتها تنزع إلى طلب الموت”.
______________________________
- فيلم مدينة الملائكة ستي اوف انجيلز: مدينة الملائكة (بالإنجليزية: City of Angels) هو فيلم فانتازيا ورومنسي تم إنتاجه في الولايات المتحدة وصدر في سنة 1998, من إخراج براد سيلبرلنج وبطولة كل من نيكولاس كيجو ميج رايان مكان القصة في لوس انجلوس والفيلم عبارة عن إعادة تصنيع لفيلم ألماني بعنوان وينج اوف ديزاير من إنتاج عام 1987 والذي مكان القصة فيه مدينة برلين
2.الإيروسية من إيروس(EROS) مفهوم مركب وبالغ التعقيد، ينطوي على نواة بسيطة، هي الجنس البسيط (SEX)أو “الغريزة الجنسية”، الطبيعية، أو الدافع الجنسي أو الرغبة واللذة الجنسيتين، وكل ما يثير الأولى ويولد الثانية .وفي الاصطلاح الفرويدي وعند بعض علماء النفس الذين استلهموه، ارتدت الكلمة معنى أكثر اتّساعا وتباينًا، يتراوح بين المفهوم الجنسي المحض والرغبة عموما
3. الليبيدو ( libido) يعرف بالدافع الجنسي/ الرغبة بممارسة الجنس و قد عرف فرويد الليبيدو بالطاقة الجنسية في حين عرفه كارل يونغ بالطاقة النفسية، ويعرفه علماء آخرون بغريزة الحياة