“تايلا” وجه لا يتّسع له الموت

حين لا تُطفئ تايلا شمعتها الأولى لا يعود العالم كما هو

"تايلا" وجه لا يتّسع له الموت

الصدمة كزمن لا يُغلق

يصف بيير جانيت الصدمة بأنها: “انقطاع في سلاسة الزمن النفسي.” أي أن الزمن لم يعد يمرّ داخلك كما يمرّ على ساعتك. الحدث يعلق. يتصلّب. يتكرّر. حين نسمع صوت أم تتحدث عن رضيعتها القتيلة، أو نشاهد أبًا يحدّق في اللاشيء كأن ابنته لا تزال في حضنه، لا نكون متفرجين — بل ناجين جزئيين. نحسّ بذنب لا تفسير له، وبعجز لا دواء له، ونبكي على شيء فينا لم نفقده… لكنه انكسر تماماً.

عندما يُقتل الرمز، لا ينجو أحد،

يقول دونالد وينيكوت: “الطفل هو رمز الاحتمال.” والاحتمال هو ما نحتاجه كي نستمر. حين يُقتل هذا الاحتمال، لا يُقتل جسد، بل يُقتل إيمان دفين بأن العالم قابل للشفاء. موت تايلا لم يقتلها فقط. بل قتل معنا افتراضاً جماعياً كنا نحمله دون وعي: أن البراءة تمنح حصانة، وأن الأطفال خارج الصراع. لكن الصاروخ الذي اخترقها، اخترق هذه العقيدة الخفية. جعلنا نرى العالم عارياً تماماً من أي عدالة فطرية. الوالدان يتكلمان. الكلمات تخرج. لكن ثمة شيء واضح: هناك ألم لا يمكن تمريره عبر اللغة. يُسمي علم النفس هذا بـ: “The Unspeakable” اللاموصوف، اللايُقال. وهنا يقع الانهيار الكامل: اللغة تسقط العدالة تبدو مفهوماً أدبياً والمشهد يتحول من “خبر” إلى جرح مفتوح لا يندمل لأن أحداً لم يمدّ له يد المساءلة.

انهيار اللغة الأخلاقية: الجريمة التي لا تجد حتى اسمًا

ما يُربك في مشهد كهذا، ليس فقط الجريمة، بل ردّ الفعل الخاوي من المفردات. تجد نفسك تقول “بشع”، “وحشي”، “غير إنساني”… لكنك تدري في قرارة نفسك أن كل هذه الكلمات لا تصف شيئاً. الجريمة تتجاوز حتى قدرتنا على تسمية ما حدث. وكأن اللغة التي نشأنا عليها — لغة الخُطب، الأخلاق، البيانات — قد انهارت هي الأخرى. وهنا يكمن الذعر الحقيقي: أن ترى الجريمة، وتكتشف فجأة أنك لا تملك أدوات كافية لتصفها أو تحاكمها. الصمت في هذه اللحظة لا يعود حياداً، بل فقداناً جماعياً للقدرة على إنتاج المعنى.

الوجدان كأرشيف سياسي

موت تايلا — كما يحدث في لحظات الوجع الجماعي — يتحول إلى علامة. إلى ذاكرة لا تُنسى، لكنها ليست مجرد صورة مؤلمة: هي سؤال أخلاقي دائم التكرار: هل يمكن أن يستمر هذا العالم من دون محاسبة؟ هذه اللحظة تفرض علينا مسؤولية ثقافية: إما أن نحملها كوجدان، كحسّ مشترك لا نسمح بطمسه، أو نتركها تندفن مع جثث العدالة في مقابر الغياب العربي.

ما الذي يمكن إنقاذه؟

الحديث عن تايلا ليس فقط عن طفلة ماتت. بل عن نظام رمزي كامل انهار في وجهنا. عن فكرة أن العالم سيتوازن يوماً ما، وقد لا يفعل. الدمعة التي في صوت أمها لا تزال في أعيننا. نحن الآن مختلفون، وهذا الاختلاف لا يمكن إصلاحه، لكن يمكن استخدامه. فإما أن نحمله معنا كجُرح مفتوح، أو نحوله إلى صرخة واعية: توثق، وتُحاسب، وتُنقذ.

العدالة ليست دائماً محكمة. أحياناً، تكون ذاكرة. وأحياناً، تكون سؤالاً يتكرّر بإلحاح حتى يُجبر أحدهم على الجواب. من رأى وجه الأم، لن يعود كما كان. لكن لعل بقاءه مختلفاً هو أول خطوة نحو أن لا تُقتل طفلة أخرى…على الهواء.

اترك تعليق