عن تجربة العدالة الإنتقالية في الأرجنتين
أربع عشرة امرأة فقط، هنّ من أسقطن الحكم العسكري الدكتاتوري الذي أرعب الأرجنتين بين عامي ١٩٧٦-١٩٨٣. عشرات الآلاف من المعتقلين، وثلاثون ألف مفقود تمت تصفيتهم ودفنهم في مقابر جماعية، وخمسمئة طفل تمت سرقتهم من عائلات المعارضين السياسيين لحكم الرئيس الأرجنتيني ( فيديلا) من قبل ضباط الجيش والمخابرات .

أربع عشرة امرأة قررن الدوران حول ساحة مايو عصر كل يوم خميس في بيونس آيرس قبالة القصر الجمهوري (القصر القرنفلي). في البداية استخفّت بهن الحكومة ووصفتهن “بمجنونات ساحة مايو” واختفى منهن ثلاث نساء، لكن كرة الثلج استمرت بالدوران وجذبت الناس إليهن لتبدأ الأعداد بالإزدياد. اتخذت الحركة شعاراً بوضع “إيشارب” أبيض مثلث على الرأس على شكل حفاض الأطفال كناية عن أبنائهن المختفين، وواظبن على الدوران حول الساحة كل خميس لمدة ثلاثين عاماً كاملةً حاملين صور أبنائهن وأحفادهن من عام ١٩٧٦ لغاية عام ٢٠٠٦ .
في عام ١٩٧٨ استضافت الأرجنيتن كأس العالم (بعد دفع رشاوي وعمليات فساد وبلطجة)، كانت الغاية إلهاء الشعب الأرجنتيني عن قضية المختفين، وتصدير صورة حضارية عنها للعالم، فبالغت بإقامة مهرجانات الرقص الشعبي في الشوارع (مهرجانات الريو) كنوع من التغطية على ممارسات الدكتاتورية، والقول بأن لا شيء يحدث في البلاد والشعب يحتفل وسعيد. كان كأس العالم لكرة القدم فرصة ذهبية لأمهات ساحة مايو، حيث أوصلن أصواتهن للعالم للمرة الأولى، وكانت بداية النهاية لحكم فيديلا الرئيس الأرجنتيني الذي جاء بانقلاب عسكري في أذار عام ١٩٧٦.
في إحدى المقابلات التي أجراها أحد الصحفين الغربيين مع الرئيس فيديلا وعند سؤاله عن مصير المختفين، اعترف من حيث لم يقصد بأنهم مختفون ولا يعرف عنهم شيئاً. قال: (هل هم أحياء؟ هل ماتوا ؟ هل كانوا موجودين أصلاً؟ هم ببساطة مختفون). كان تصريحاً غريباً ومستفزاً من رئيس الدولة عن ثلاثين ألفاً من مواطنيه، ومن هذا التصريح تم اعتماد مصطلح (المغيبون قسرياً) لأول مرة في الأمم المتحدة، وتم تبنيه من جميع المنظمات الدولية لحقوق الإنسان .

استمرت حركة الأمهات بجذب الانتباه والمناصرين لها، وازداد معها الضغط داخلياً وخارجياً، فأرادت الحكومة تصدير الأزمة فافتعلت حرباً ضد انكلترة على جزر الفوكلاند عام ١٩٨٢، حيث هزم فيها الجيش الأرجنتيني تماماً مما أدى بالنهاية إلى استقالة فيديلا وتسليم السلطة إلى مجلس عسكري انتقالي جاء على إثره كارلوس منعم رئيساً للبلاد. فتحت قضية المختفين وفتحت معها السجون والمقابر الجماعية وبدأت المحاكمات، لكنها لم تستطع إدانة أحد، إذ أشعل الجيش حرباً أهلية في بيونس إيرس (سيارات مفخخة شبه يومية وتفجيرات وقنص في الشوارع) أجبرت المحاكمة على التوقف في النهاية. تم الكشف عن مصير خمسة عشر ألف من المفقودين، واستمرت أمهات مايو بالدوران حتى سقطت الحكومة الانتقالية واستقال كارلوس منعم لتفتح مجدداً المحاكمات، ولكن هذه المرة تمت إدانة الرئيس فيديلا حيث دخل السجن إلى أن مات فيه عام ٢٠١٣.
ليس مجرد فيلم
يحكي فيلم ‘“تخيّل الأرجنتين“’ عن فترة الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين بين عامي 1976_1983، عندما ارتكبت فيها الحكومة العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية انتهاكات جسيمة بحق المعارضين اليساريين تحت ذريعة محاربة الشيوعية، والتي تمثلت بعمليات اعتقال لعشرات الآلاف من الأشخاص رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتم تصفية حوالي ثلاثين ألفاً منهم وإخفاء أي أثر لهم.
كارلوس بريدا كاتب مسرحي يتم اختطاف زوجته الصحفية سيسيليا بعد نشرها مقالة صحفية حول اختفاء عدد من الطلاب الذين كانوا ينددون بغلاء سعر تذاكر المواصلات، حيث اعتبرت ذلك أمراً مخجلاً أن تقوم الحكومة باعتقالهم لهذا السبب.
تختفي سيسيليا بالطريقة ذاتها من دون مذكرة اعتقال، ومن دون أن تعترف الأجهزة الأمنية بوجودها لديهم،
ليبدأ الزوج كارلوس رحلة بحثه عنها والتي اكتشف خلالها قدرته على تخيل ما حدث بالضبط للمخطوفين وما هو مصيرهم.
“تخيل الأرجنتين” ليس فيلماً مسلياً، ولم يعنيه أن يقدم قصة حب مليئة بالمصاعب كما يتم تصنيفه عادة،
بل هو وثيقة للتاريخ ضد الدكتاتورية العسكرية لفضح تلك المرحلة المظلمة من تاريخ الأرجنتين، والإبقاء على قضية المغيبين قضية حية في الذاكرة والوجدان والتي لم تنته حتى اليوم رغم اكتشاف مصير العدد الأكبر من ضحايا تلك المرحلة، وبأنها قضية الجميع.
في بداية الفيلم سنرى أن الكاتب المسرحي كارلوس بيريدا لم يكن متحمساً للقضية، ويحاول إبعاد زوجته عنها تجنباً للعواقب التي قد تحدث (كذلك صديقه المخرج الذي يتم اختطافه أيضا ورميه من طائرة). إلى أن تم اختطاف زوجته لتصبح قضيتها وقضايا جميع المختطفين قضيته الأولى.
كان الفيلم يريد أن يقول أن لا أحداً بمأمن، وأن الحياد موقف غير متاح في الأرجنتين في ظل حكم ديكتاتوري.
المقولة المهمة في الفيلم هي تلك القدرة الغريبة التي ظهرت فجأة عند كارلوس حين استطاع معرفة ما حدث للمختطفين بدقة، استعارة فنية جميلة وذكية، وكأنه رغم ذلك التعتيم الكامل لمصير المعتقلين وعدم إعطاء أية معلومة عنهم، إلا أن ضمير الناس يعرف جيداً ما الذي حدث وبكامل التفاصيل أيضاً. ففي الوقت الذي كانت الحكومة تسخر فيه من الذين يسألون عن أولادهم ويشككون بوجودهم أصلاً، اتضح أن هذا الضمير كان على حق، وأن ما عرفه الناس في قلوبهم عن مصير أبنائهم كان صحيحاً وحقيقياً ودقيقاً،
(تخيُل الأرجنتين) وثيقة تاريخية وسياسية وإنسانية أكثر منه فيلماً سينمائياً، وثيقة أرادت أن تقول: “لم نقبل ولن نسكت، وسنبقى ندور عصر كل خميس مع الأمهات حول ساحة مايو ونخبر العالم عن أولادنا، عن أبناء الأرجنتين الذين كانوا ثمناً لزوال حقبة الدكتاتورية القبيحة من تاريخ هذا البلد”.
إنه فيلمٌ لا يسلي، بل يؤلم ويجعلك لا تنساه. وهذا أفضل مافيه.
إقرأ أيضاً: ‘ماذا لو كانت المرأة ربع المجتمع’