تَتحرك أصابعها المجعدة برتابة مع سنانير الحياكة. يميل رأسها بهدوء مع كل قطبة تنسُجها، وكأنها تستحضر من خزينة الروحِ ذكرى تتسلحُ فيها. 

تتعلق عيناها للحظاتٍ بالسماء، وسرعان ما تهزُّ راسها نافضةً مخاوفها 

 ثم تعود لتمسك الخيط، تمرره بين أصابعها، فيبدو أنه يمتد منساباً من قلبها، تمسكه في حذر شديد؛ تخاف أن ينفذ الصوف قبل أن تكمل عملها.

 وعدته أن تنسج له كنزة صوفية جديدة قبل موسم الشتاء، كان يمازحها ويقول: “انتي قدّ الوعد”؟  تتذكر ملامحه وصوته وضحكته. تبتسم وهي تردد جملتها المعتادة:”عبود جسمو برِّيد، لازم خلصها قبل مايجي”

قبل ثلاثة أشهر كانت تضمهُ وتشمهُ أمام باب البيت في قَريتها، وتَعيشُ مع أقاربها في سلام، تلملمُ الحطبَ للشتاء وتنثرُ للطيورِ حبوب الحنطة، لم تفكر أنها ستغادر يوماً، لكن صراخ النساء وبكاء الأطفال أجفلها وجعلها تصعد مع أقاربها وجيرانها بالحافلة مبتعدة دون أن تأخذ شيئا معها.

 ماذا ستأخذ؟ وكيف تختزل بيتها بحقيبة؟!

 وأي غرض سيلزمها مادام عبود سيبقى هناك؟! 

صوته الواثق على الهاتف: “اطلعي يا أمي مع الناس.. مافي وقت “

 صدى تلك الكلمات مايزال معها، ما يزال وعده أن يلحق بها، يرن في رأسها.

عندما وصلت مع أقاربها لحارتنا منتصف تموز، هرعنا للمساعدة وإحضار ما يحتاجونه، لكنها فاجأتنا جميعاً في طلبها ” بدي صوف “

لم يكن الأمر ممكناً فالسوق مغلق، والمحلات خالية حتى من المواد الغذائية 

لم تنتظر وعدي لها بمحاولة البحث عن محل بيع الصوف.

في الصباح كانت جالسةً في زاويةِ الشرفة تعمل، بعد أن وجدت الحلَّ: قامت بكرِّ جاكيتها الصوفي الذي كانت تلبسه وهي تؤكد لنفسها:” هيك كل الدفا رح يكون بهالكنزة”. استعارت سنانير وبدأت بالحياكة.

لم يحمل عبود يوما سلاحاً، ولم يفكر باقتنائه، لكنه أصر أن يحرس القرية مع بقية الشباب. أن يبقى على حدودها، فهو لم يفعل شيئاً يجعله يهرب من بيته.

وفي لحظة خبا نور القرية الوادعة، بعد أن دخل الغربان القرية بقوة السلاح، فاغتالوا الضوء. غيمة سوداء لفت القرية، كانوا مدججين بالحقد وعاثوا فيها خرابا قبل أن يحرقوها. لم يتوقع أحد بشاعة ما حصل لبشر مسالمين كل ذنبهم أنهم من طائفة مختلفة، ولم يقبلوا أن يتركوا بيوتهم.

وعبود من يومها لم يُعرف عنه شيء، بعضهم يقول قُتل، وآخرون أكدوا أنه أُخذ أسيراً بشكلٍ قسريِّ لمكان قصي، مع الكثير من أهالي القرى المجاورة، لكن قلبها لا يتحمل أي حديث عنه، دائماً تهرب لتلك الزاوية مع دائرة الصوف وتحاول نسج حكاية مختلفة عما يحكون.

وصلت الكثير من الفيديوهات لأقارب أم عبدو. كانت أصوات بكائهم المخنوق تصلنا ليلاً، فنعلم أنهم سمعوا عن شهيد جديد، أو خبراً عن بيوتهم المحروقة. 

نراهم كل يوم يذبلون، وأكتافهم تنحني من ثقل الفقد.

 الموت ما زال يقطف الأرواح هناك، ولم ينجُ أحد، حتى نحن ومن وصل إلى مدينتنا، ما زال شبح ما حصل يطاردنا ويسكن معنا.    

كانت أم سليم الجارة الأقرب لأم عبدو، الأكثر قدرة على إقناعها أن تأكل وتشرب معهم، ودائماً تسخر من إصرارها على الحياكة، خاصة عندما تراها تعيد الكرِّ كلما قاربت على الانتهاء.

هذه المرة كان صوت أم سليم وبكائها غريباً، لقد وصلتها صورة زوجها بين شهداء القرية، بعد ستين يوماً، بالكاد تعرفوا عليه، لكنها عرفته من ثيابه.

 نواح أم سليم جعلني أركض إليهن. كانت النسوة يوايسينها :

“المهم عرفتي أنو استشهد بالقرية ومش مخطوف”

صراخها المخنوق جعلهم يصمتن عندما قالت: أي موت هذا وأي دين يحرمنا من دفنهم، ووداعهم”. استغربت لدموع ابنتها الممزوجة بالرضا وهي تقول: الحمد الله لاقوه، كان مرمياً بجانب الطريق، جثته المحروقة جعلت الكلاب لا تقترب منه ” 

كنت استمع للنسوة، دون أن أجد ما أقول لمواساتهن.

ماذا أقول لهن، وأي كلمة قد تواسي هذا الحزن المتشظي؟!

أي قهر هذا الذي أوصلنا لنحمد الله على معرفة أن الجثة المحروقة مصيرها أفضل من بقية الجثث، لأنها ستكون عصية على الكلاب المسعورة.

أي مواساة ستنفع في هذا القاع اللعين؟!

لُذنا جميعاً بالصمت، وبقي البكاء وحدهُ سيد اللغات.

 كل ذلك وأم عبدو جالسة في مكانها، كانت تعمل بسرعة، وتكاد تنهي الكنزة، لم تتحرك ولم تقل شيئاً لجاراتها، كانت فقط تهتز مكانها كشجرة في عاصفة. 

بعد ساعات غلف الصمت والسكون الحارة، نام الجميع تاركين الحزن يرتاح قليلاً.   

لكن أم عبدو لا تريد أن تستسلم، عادت للجلوس مكانها على الشرفة تحت ضوء القمر، الذي رسم حولها هالة كالقديسين.

بدا وجهها شاحباً وشفتاها يابستين، توقفت لتمسح بأصابعها ما حاكته، تلمسته محدثةً إياه وكأنها تمنحه دفء روحها.

قاربت على إنهاء الكنزة، وبدأت تستعمل خيطاً طويلاً من الصبر لتجمع الأجزاء،

لكنها توقفت فجأة، وبدأت تكُّر ما حاكته، لتعيدها كبة صوفية تحتاج للنسج من جديد.

 علمت أنها ليست مجرد حياكة، فتلك القطعة الصوفية أبقتها حية حين كان كل شيء يتلاشى،

غرزة بعد غرزة تخيط الأمل بعودته، قطبة قطبة تنسج له طريق العودة من جديد، بيقينٍ عظيم، وحبٍ صامت يعرف كيف يغزل الأمل من قلب الألم.

_____________________________________________________________________________________

اترك تعليق