ساحة الكرامة، وإمكانية التغيير السياسي

التغيير السياسي
ساحة الكرامة

                                           

    على مدى عقود من الزمن، تسيّد المشهد السياسي السوري نظام استبدادي أمني. احتل الفضاء السياسي والمدني السوري، وألغى فاعلية الحياة السياسية والمجتمعية عبر إلغاء دور وفاعلية الأحزاب والمنظمات والنقابات. واحتوائها ضمن تشكيلاته النقابية وجبهته الوطنية التقدمية. وصادر بذلك تدريجياً العمل المدني والسياسي في سوريا حتى على حزب البعث نفسه. وقد عبر أحد أعضاء القيادة القطرية عقب المؤتمر القطري السابع 1980 عن ذلك بقوله: “في الحزب، الأفضل أن لا تشتغل في السياسة”.

 أدى كل ذلك إلى تحكم السلطة في جميع جوانب الحياة العامة والخاصة للمجتمع. ومن البديهي أن هذا التقويض أدى إلى فقدان الثقة في العمل السياسي. وقيمته وفاعليته أمام سلطة تحتكر السياسة والاقتصاد والثقافة والطوائف. لاسيما أن تجربة ربيع دمشق لم يكتب لها الاستمرار والنجاح واجهٍضت قبل أن تزهر حتى. وبذلك كانت فرصة ضائعة تجلت نتائجها باندلاع الثورة عام 2011 والتي أفرغها استخدام النظام للقوة المفرطة في قمعها من حاملها السياسي والمدني. وتحولت إلى مذبحة جماعية للسوريين. لم تكن الثورة بطبيعة الحال عملاً سياسياً أو نشاطاً معارضاً للسلطة بقدر ما كانت ثورة راديكالية لتقويض السلطة الحاكمة. ثم تأتي الشؤون السياسية لاحقاً. ولذلك كان الثوار لا يقبلون بتسمية المعارضة. بل يؤكدون على الفعل الثوري والثوري فقط. في مقابل ذلك تجلت المعارضة السياسية عبر تيار معارضة خارجية متعدد الألوان والأطياف تتقاذفه التبعيات والولاءات حمل شعار “إسقاط النظام المجرم” ولم يزل. وتيار آخر سمي بالمعارضة الداخلية أو “المعارضة الوطنية” المحسوبة على السلطة والمصنعة على مقاسها. وكلاهما فشلا بإنتاج فعل سياسي  حقيقي ومؤثر.

وعملياً جرب السوريون كل شيء عبر أكثر من عشر سنوات سابقة، باستثناء الانخراط بفعل سياسي معارض من الداخل. وليس هذا لقصور ذاتي بقدر ما كان نتيجة عوامل مختلفة تجعل من أي نشاط سياسي شبه مستحيل

فهل مازال هناك فرصة للعمل السياسي من داخل سوريا من أجل إحداث التغيير المنشود؟.

يبرز هذا السؤال من جديد بعد مرور أكثر من مئة يوم على حراك السويداء.

أظهر الحراك رغم أهميته الكبيرة وتألقه، قصوره عن أن يتحول إلى فعل عميق. الحراك كان ينتظر رد الفعل، أي كيف سيتعامل النظام معه، كيف ستتعاطى معه الدول الإقليمية والدولية. وهو ما يُظهر أحد أهم أوجه قصورة الداخلي. اي انتظار رد الفعل لا الفعل 

ولا شك أن السلطة إلى اليوم قد اختارت التجاهل في محاولة لنزع القيمة العميقة للحراك. ناهيك عن ارتفاع طبول الحرب إقليمياً وتحول عدسة الإعلام إلى المجازر التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني في غزة.

لا شك أن الغالبية العظمى من السوريين يتفقون على أهمية التغيير والرغبة فيه سواء من كان منخرطاً بالحراك وداعماً له، أو من يقف خارجه. وحتى معظم الذين يتوجسون منه أو حتى يخونونه. كما أن الغالبية متفقون بأن المظاهرات لا تسقط النظام، وأنها ليست غاية في حد ذاتها بل وسيلة للتعبير والضغط.

وإذا كان للمظاهرات أوجها وتألقها وقيمتها الكبيرة وتظهر كغاية، فهي كذلك لأنها تحدي خطير ومغامرة أعادت إحياء الأمل بالتغيير وبالثورة. أو من خلال تحولها وتطورها وتعزيز انتشارها. ولكن بعد أن تحقق الاستقرار للساحة فإن استمرارها كغاية وهدف سيحولها إلى فعل اعتيادي منزوع القيمة، ثم إلى ملل وانسحاب.

تمتلك ساحة الكرامة اليوم بُعداً جديداً ومهماً لا بد من استثماره. فهي اليوم، ونتيجة لهذا الاستقرار نفسه بيئة مناسبة لزرع بذرة العمل السياسي المحايث للواقع، وتشكيل قوة سياسية واجتماعية تنظيمية للإنخراط بنشاط سياسي مؤثر. يبني لنفسه أرضية شعبية صلبة تقف بوجه قوى الأمر الواقع، وبأهداف واضحة للتغيير السياسي وبناء الدولة المنشودة. وهي قد بدأت بالفعل، ولا بد من دعم هذا التوجه وتوحيد جهوده ودمج مكوناته في مشروع سياسي واحد. ولكن هذا التوجه نفسه يحتاج منا الوقوف أمام الكثير من المقدمات والأحلام الثورية، التي اعتدناها، ومراجعتها. 

فالسقوط الدرامي للنظام حلم رومانسي لا بد من تجاوزه، وهو حلم قد يتحول إلى كابوس، ذلك أن مقولة لا بديل عن النظام الحالي ليست مقولة كاذبة بل صحيحة تماماً في هذا الظرف الحالي. كما أن فكرة التدخل الخارجي أو الحسم الدولي أو انتظار المخلص أكثر حلماً وأفدح خطأً.

أمام السوريين الذين يمتلكون مشروعاً وطنياً حقيقياً، خيار ممكن للعمل السياسي المنظم والصريح. وتعلم السياسة من جديد، لخلق قوى اجتماعية سياسية، وشبابية، تأخذ مكاسب بالتدريج، وتعلن عن برنامج وطني للتغيير، وتحارب بالمعنى السياسي على مدى سنوات قادمة عبر كل القنوات السياسية والإدارية والقانونية، من أجل إحداث التغيير المنشود. ليس هذا بالأمر الهين بالتأكيد فأن تعمل من الداخل وضد الداخل أمر يحتاج مواجهة الكثير من التحديات والبديهيات التي ألفناها، وسيواجه بجملة من الاعتراضات متعلقة بشرعية النظام وعدم قابليته للإصلاح. وتعطيل العمل الثوري لصالح نشاط معارض يمكن احتواءه وإفراغه من قيمته بسهولة. وبالتالي فهي محل ترحيب من السلطة. كما أن الحديث عن سوريا المسلوبة بيد القوى الدولية والإقليمية، وأن كل القرارات المصيرية بيد هذه القوى، ريثما تنضج الخيارات والقرارت والمصالح، سيعطل أي قيمة للإنخراط بالفعل السياسي. وكل هذا الكلام السابق صحيح جزئياً فالنظام غير قابل للإصلاح. ولكن النظام اليوم ليس النظام قبل عشر سنوات مضت، وكل مكسب سياسي أو قانوني هو نجاح وخطوة تسهل عملية التغيير. وإذا كان النظام يؤيد هذا التوجه للعمل السياسي، فليس المهم مايريده النظام بل ما يريده السوريون وما يعملون من أجله. ثم أليست الدعوة لتطبيق القرار 2254 الشعار الأبرز في الساحات يقتضي عملية تغيير سياسي تدريجية، فالقرار لا يعني اسقاط النظام بل تغييره بالتدريج عبر هيئة حكم انتقالية تشارك فيها قوى سياسية معارضة في السلطة. وصولاً إلى دستور وانتخابات حرة. فلا تستقيم الدعوة لإسقاط النظام مع الدعوة لتطبيق القرار.

إن أهم التحديات التي تقف عائقاً أمام هذا الاستحقاق، هو التحول من الرومنسي إلى السياسي، من الراديكالية إلى مشروع تغيير طويل الأمد وهو بطبيعة الحال لا يتوافق مع الرغبات الرومانسية، والراديكالية الثورية اللتين أثبتتا عقمهما. والأهم من ذلك كيف يمكن مواجهة التحديات الأخلاقية والقانونية والتنظيمية، بالمشاركة بالعمل السياسي مع النظام وضده؟ كيف يمكن تحويل قوة الحراك السلمية وشعاراتها إلى قوة وطنية وشعبية سياسية مؤثرة ومنتشرة أفقياً على امتداد الوطن السوري؟

ثم هل التوجه إلى العمل السياسي يلغي الأحلام الثورية أو نضوج القرارات الدولية أم يساهم في تسريعها؟! ربما بعد سنوات في حال استمرار ما استوطن فينا من بديهيات. سواء كانت تنطوي على عجز الإرادة الشعبية، أو انتظار المفاجأت، سنجد أنفسنا نراوح مكاننا ونعيد تجربتنا، وننتظر (غودو). دون أن نكون قد قدمنا أي بديل سياسي للسوريين وللعالم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليق