بدأت موجات النزوح في الدخول إلى محافظة السويداء؛ أواسط العام 2012، حيث عمد مسؤولو المحافظة لوضعهم في أماكن إيواء تعود ملكيتها لمؤسسات الدولة مثل معسكر الطلائع في قرية رساس. لكن تلك المحاولات لم تكن كافية بسبب موجات النزوح المتوالية من ثماني محافظات، أكثرها كان من درعا وريف دمشق، وسط رفض مجتمعي كبير على إجبار النازحين السكن في المعسكر، والتخلي عن العادات الأصيلة في إغاثة الملهوف.
يقول أحد الناشطين في المجتمع المدني في مدينة “شهبا”: لا يمكن إغفال الاعتبارات القيمية والأخلاقية المتعلقة بإكرام الضيف وحماية الدخيل لدى أهالي المحافظة، والتي تشكل جزءاً أساسيا من هويتهم الثقافية والتاريخية حالهم حال غالبية السوريين. وهناك حوادث في التاريخ لا تزال حاضرة في ذاكرة الآباء والأجداد يعود إحداها إلى نهاية العهد العثماني عندما فُتحت مخازن القمح أمام قرابة عشرين ألف شخص قدموا الى الجبل هاربين من المجاعة و التجنيد الإجباري (السفر برلك)
*وافدون ومضيفون : بين الصورة النمطية للنزوح وبين الواقع
اقتصر النزوح في بداية الحرب على بضع عائلات، بسبب تخوف أبناء المناطق الساخنة من القدوم إلى السويداء (كما صرحوا بذلك بعد استقرارهم)، وأرجعوا ذلك لعدة أسباب منها: الصورة النمطية المسبقة التي كانت سائدة بأن المحافظة تقف في وجه الحراك الشعبي، وبأنهم غير مرحب بهم. والثاني التوجس من الآخر المختلف دينياً أو مذهبياً والذي يشي بحجم الشرخ الاجتماعي المتجذر في المجتمع السوري. والثالث الأهم هو الخوف من الملاحقات الأمنية.
ومع ازدياد وتيرة العنف في المحافظات المجاورة، بدأت أعداد النازحين بالارتفاع ليتجاوز عشرات الألاف، حيث وجدوا الترحيب من غالبية شرائح المجتمع،
وعلى الرغم من الصورة المسبقة في ذهن أبناء المحافظة أيضا تجاه باقي المحافظات والاختلاف المذهبي نتيجة الشرخ الاجتماعي ذاته، إلا أن تلك الصورة سرعان ما تبددت أمام أصالة القيم التي يحملها السوريون في مثل هذه الظروف
كما تبددت أيضا المخاوف التي شاعت حينها من أن القادمين سوف ينافسونهم على رزقهم أو أن تغييرا ديمغرافياً إذا ما حدث سوف يضعف تماسكهم. لكن تلك الهواجس تبددت بشكل تلقائي؛ وما كان أولوية لأبناء المحافظة هو أن الهاربين من الحرب إنما يطلبون الأمان و أن إغاثة الملهوف وتقديم المساعدة هو ركن أصيل لا يمكن التنازل عنه في المنظومة القيمية التي يتسمون بها
. أما ما يتعلق بموضوع المنافسة على المهن الحرفية فهو أمر لا يمكن تجاهله ولكنه بقي ضمن المعقول في حين رأى التجار وأصحاب الملك أن الوافدين قد زادوا الطلب في السوق،وحركوا عجلة التجارة في المحافظة.
يقول أحد سكان مدينة شهبا: عند قدوم الوافدين إلى شهبا؛ تجمع حوالي مئة وخمسون شاباً وشابة لاستقبالهم، وأخذهم إلى مساكن فارغة، وقدموا لهم المساعدات الاساسية (مثل الأغطية والطعام ومواد التنظيف)، وتطوع عدد من الأطباء في المدينة لتقديم الخدمات العلاجية مجانا وتم تخصيص خط ساخن لاستقبال الحالات على مدار الساعة.
كما حضر أفراد من “الهلال الأحمر” لتقديم المساعدة أيضاً. وبعد أيام على استقرارهم قرر بعضهم البدء بالبحث عن عمل، حيث عمل أهالي درعا بعدة مصالح في المنطقة الصناعية في مدينة شهبا، من ضمنها بيع الخضار والفاكهة، ومنهم من فتح مطعم أو ورشة نجارة، أو محلات للإلكترونيات وتجارة المنتجات الزراعية وغيرها.
فيما قال ناشط في منظمة “بيتي أنا بيتك” (التي انبثقت منتصف العام 2012 عن لجان المواطنة والسلم الأهلي كاستجابة للأعمال الإغاثية على أثر قدوم الوافدين ): “من الملفت أنه خلال فترة قصيرة؛ بدأ الوافدون يشعرون بالأمان، وبدأت تنشأ علاقات بينهم وبين المجتمع المحلي، و أصبحوا أكثر انفتاحاً على عادات وتقاليد المنطقة،”.
وأضاف الناشط: أطلقت منظمة “بيتي أنا بيتك” شعار “حق الضيف وحق الوطن” ليكون بوصلة عملها، وقد شكلت فريقاً من المتطوعين/ات تجاوز عددهم المائة متطوع/ة، حيث عملوا لمدة 3 أشهر من دون أي تدخل من أي منظمة إنسانية، واعتمدوا في تمويل العمل بشكل كامل على دعم المجتمع المحلي وأبناء المحافظة في دول الاغتراب.
كما ساهمت بإطلاق العديد من المبادرات التي سعت ااى ردم الهوة بين المجتمع المحلي والوافدين، ومنها حملة ضد “التعفيش” التي تم إطلاقها في محافظة السويداء بعد سيطرة القوات الحكومية على محافظة درعا عام 2018، وبدأت عمليات السرقة من قبل بعض المجموعات واستباحة أرزاق المواطنين، حيث تم إطلاق حملات ادانة للظاهرة على وسائل التواصل و أُطلقت عدة هاشتاغات:
#لا_للتعفيش ، #لا_تعفش_شايفينك ،#لا_تشتريه_صاحبه عم يبكي عليه. وكان من مفاعيل هذه الحملة قيام العديد من الفعاليات الشعبية بإصدار بيانات حرموا فيها شراء أو بيع المسروقات في محافظة السويداء، والتهديد بالتبرؤ من المشاركين بالتعاطي أو الترويج أو المتاجرة بالمواد المسروقة. وقد صدر حرم ديني من مشيخة العقل بذلك
ولابد من التذكير هنا بالتدخلات التي قامت بها منظمات العمل المدني ومنها بيتي أنا بيتك في قضايا الخطف والخطف المضاد التي استهدفت الوافدين من قبل العصابات في السويداء
حيث تعرض الوافدون في مناسبات كثيرة لعمليات خطف إما لطلب فدية مالية أو كخطف مضاد على اثر اختطاف أحد أبناء السويداء في درعا. وهي ظاهرة لا تزال تعاني منها محافظة السويداء التي يدفع مواطنوها و الوافدين على السواء ضريبة الانفلات الأمني وتخلي مؤسسات الدولة المختصة عن مسؤولياتها في الملاحقات القضائية للمرتكبين.
*..وبعد
عاد غالبية الوافدين إلى مناطقهم وبيوتهم، حاملين معهم ذكرياتهم بحلوها ومرها عن فترة سكناهم في السويداء، لكن العلاقات لم تنقطع يوماً، خاصة أن عدد من العائلات المنحدرة من محافظات درعا وريف دمشق لم تغادر، وقررت البقاء بعد أن كبر الأبناء وتعلموا وأصبحوا جزءا من المجتمع وتماهوا مع عاداته وتقاليده، فيما اتجه الآباء والأمهات للعمل والاندماج الكلي مع الواقع المحلي في محافظة مازال سكانها يحتفظون بحب الضيف ورعايته رغم كل ما خلفته الحرب من ويلات.
…………..
_ من الذاكرة
*(م. ش ) أحد أبناء ريف دمشق عاد من المهجر بعد وفاة والده الذي كان يقيم في شهبا واشترى بيتا بها، والتي اعتبرها هذا الشاب انها مدينته وبلده و له فيها ما يجعله يدفع حسنة والده المتوفى إلى الاعمال الخيرية في شهبا في بادرة لا تدل إلا على النبل والأصالة
..
*ايضا كان (ح. ز) من درعا تاجرا يملك محل خضار وفاكهة في المنطقة الصناعية في شهبا اكتسب شعبية كبيرة من خلال أخلاقه العالية وحسن تعامله مع الناس و بخاصة الفقراء ،وكان جميع أهل المنطقة يأتون إليه من أجل أسعاره التي كانت بمتناول الجميع وبضاعته الجيدة
من ناحية أخرى حاول أهالي شهبا تقديم المساعدة بكافة الطرق
وعلى سبيل المثال كان مواطنو مدينة شهبا لا يأخذون الإيجار من الوافدين خلال الستة أشهر الأولى تقديرا لظروفهم الطارئة ولظنهم ايضا ان الحرب لن تطول. فيعتبرونها حق الضيف.
لكن بعد أن بدأ الوافدون بعملهم وبدأت أحوالهم المادية تصبح جيدة قررت بعض فعاليات المدينة أخذ أجور رمزية واعتبروهم جزءا من المجتمع المحلي وحرصوا على إشراكهم في مناسباتهم كأهل وجيران
كما تم تخصيص دوام مسائي لأبناء الوافدين في بعض المدارس بسبب الأعداد الكبيرة. فضلا عن تطوع عدد من المدرسين/ات بتنظيم صفوف تعليمية مؤقتة لمن لم يستطع الالتحاق بالمدرسة من الأطفال. ضمن مبادرة قامت قامت بها منظمة بيتي انا بيتك
وقد يكون من اللافت ذكره في هذا السياق أن محافظة السويداء كانت المكان الوحيد في سوريا الذي منع فيه بيع المسروقات بشكل كامل. وهو المكان الوحيد الذي كانوا يطلقون فيه على القادمين من مناطق الصراع إسم ضيوف أو وافدين وليس (نازحين )باعتبار أن هذا التوصيف يحمل إشارات سلبية عالقة في الذاكرة السورية.
وفي الواقع هو لم يكن مجرد إسم بل إنه طريقة معاملة كضيوف وأهل وجيران. وجميع السوريين هم أهل لذلك .