لا أعلم إذا كانت (الشلليّة) هي مرض مستشرٍ فقط لدينا نحن العرب، بحكم أننا نمتلك مواهب استثنائية و نادرة لا يمتلكها بقية العالم، طبعاً مواهبنا محصورة في كل ما يتعلق بالكلام و الكلمات و القيل و القال و السرد و المرد، لدرجة أننا لابد سننافس دول العالم خلال سنوات قليلة بعدد الصحفيين و الشعراء و الكتّاب و الروائيين، و ما تلك الفيضانات الإبداعية التي أغرقت عالم الإنترنت و السوشيال ميديا إلا دليلاً ساطعاً على حتمية ما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل و مما سينعكس سلباً على قطاعات العمل الأخرى، فالكاتب أو المثقف العربي إن وجد، (لأن ليس كل كاتب مثقف ببساطة)، غالباً ما يكون عاطلاً عن العمل، و في الوقت نفسه و بسبب هذا الإقبال الخرافي و الخيالي على الكتابة لاسيما من قبل جيل الشباب اليوم، سيؤدي إلى اتساع و تزايد عدد العاطلين عن العمل، لا سيما في بلداننا المنكوبة و التي هي في الأساس عاطلة عن العمل و فاقدة للأمل و غارقة في الظلام و البطالة و غلاء الأسعار، طبعاً للإنترنت فضل كبير بازدياد نسبة الثرثرة و المثرثرين، بما أتاحه من منصات للظهور و تكريس ثقافة الاستعراض. إذاً سنصبح شعباً كاملاً بلا عمل إلا من رحم ربي.
تخيل معي المشهد التالي، شهادات تتكدس فوق بعضها بلا سوق و لا فرص عمل، نسبة نجاح في البكالوريا حوالي 50%، طبعا ليس بسبب استفحال الغباء أو قلة الذكاء العام، على العكس و لكن بسبب مخاطر ارتفاع نسبة النجاح و محدودية ما يسمى الاستيعاب الجامعي بالإضافة إلى انكماش الاقتصاد و شح الموارد و ركود سوق العمل و تفاقم البطالة و هجرة نصف العباد، بالنهاية تخيل ذلك المشهد جيل كامل من الشباب والشابات يجلسون يدخنون الشيشة المغشوشة أو يكشون الذباب في مقهى الوطن.
و مع ذلك الكل يريد أن يذهب للفن و الدراما و الكتابة و الصحافة و الغناء و اليوتيوب، و الكل يريد أن يصيح نجماً، فوضى ما بعدها فوضى و أسىً ما بعده أسى، واقعٌ، يوماً بعد يوم يزداد فراغاً و توهاناً، و ثقافةٌ يوماً بعد يوم تزداد ضحالةً.

شخصياً لم أعد استغرب بحكم الشللية المتفشية و القائمة على تحالفات ذاتية و موضوعية و انتماءات مختلفة، و أحياناً على انعدام الموهبة و أحياناً على البلطجة الفنية و الثقافية، الشللية المقيتة التي تعيق كل إبداع و كل نمو و كل حركة و تقف حائلاً أمام المواهب الحقيقية في كثير من الأحيان لا بل في أغلب الأحيان، الشلليلة المنتشرة في كل مكان و في كل إتجاه، في المهرجانات و المعارض و الأمسيات و الجوائز و الصحافة و التنفيعات الفنية و الثقافية و غير الثقافية في الإعلام و الإعلام البديل ، لم أعد أستغرب أبداً من فكرة قيام مجموعة من الشعراء أو الروائيين مثلاً بإنشاء وزارة ثقافة خاصة بهم، فنحن أصبحنا بحاجة إلى موقع إلكتروني لكل كاتب و عامود صحفي إسبوعي لكل شاعر، و دور بطولة لكل ممثل/ ة، و صحيفة لكل مبدع و دار نشر لكل روائي، و جمهور لكل توقيع كتاب، و مع ذلك كل تلك الأطنان من الورق، و الحبر و الكلمات، غير قادرة على إحداث تغيير حقيقي في هذا المجتمع العربي و إحداث و لو هزة أرضية خفيفة في ثقافته و قيمه و وجدانه ، هذا المجتمع الذي نحلم فقط نحلم أن نستطيع أن نقفز به قفزة و احدة أو حتى على مراحل، خمسين سنة للوراء، إلى النكسة أو ماقبل النكسة بقليل، بعد أن أصبحت أيامنا كلها نكسات.

الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع