علاقة السهل والجبل.. نقطة فارقة في السطر السوري

اللوحة للفنان ألفريد حتمل

______________________
إنّ تجاوز البديهيّات أو تجاهلها يشكلّ إعاقة لقدرة العقل على إدراك ما يجب إدراكه، فالبديهيّات باعتبارها اتفاقاً ضمنيّاً على أو حول ما هو موجود، تؤكد أن ّ التواصل بين الأفراد هو الأساس في بنائنا الإنسانيّ، فنحن أولاً وأخيراً كائنات اجتماعيّة، ومن البديهي أنه لا يمكننا العيش بمعزلٍ عن بعضنا ، بالتالي قد تبدو مفاهيم مثل العيش المشترك والسلم الأهلي والتماسك المجتمعي مفاهيماً نافلة عن القول بأننا في الأصل كائنات اجتماعيّة ذات تاريخ مشترك ومستقبل مشترك، ولكن حين تتردد هذه المفاهيم بكثرة، هذا يعني أنّ هناك خللٌ ما قد حدث، خلل طارئ على سدا النسيج الاجتماعي ولحمته، ومن هنا يبدأ التفكير جدياً بالعودة إلى البديهيات التي تم تجاوزها أو تجاهلها.
فعلاقة السهل والجبل (درعا والسويداء) تشكل نقطة فارقة في السطر السوري، حيث أتاحت هذه العلاقة عبر تاريخها تحقق جُملاً وطنية، يمكن أن تشكّل بمجملها مقدمة لكتاب المواطنة في التاريخ السوري الحديث، إذ أثبت كل من السهل والجبل قدرةً على تجاوز الطارئ في العلاقة بينهما، والعودة إلى الصيّغ الأمّ في وجودهما كوجود مشترك وفاعل، فخطاب الكراهيّة الذي أرادت له المصالح الضيّقة أن يكون خطاباً رسمياً بينهما، ما لبث أن تداعى مرةً تلو مرةٍ، مهما كان حجم نار الفتن والدسائس التي أُضرمت بينهما، فالعقلانيّة التي تمسّك بها الفاعلون الاجتماعيون في كلتا المحافظتين، ليست من باب الترف أو المجاملة، بل كانت نتيجة حتميّة لرؤية الجميع، بأنّ انتظار الحلول من خارج المكان هو انتحار بطيء للجميع، فالحلول كانت دائماً هنا وبالمتناول، إنها تتعلق في أننا معاً، ولا فرصة لأن نستمرَ في وجودنا إلّا كسوريين تظللهم هوية وطنية جامعة.
في الحقيقة لا توجد حربٌ لم يسبقها خطاب كراهيّة، فهذا الخطاب يشكّل الدعاية الأكثر جذرية لاستثمار التفاصل والتحاجز الاجتماعيين، فكلماّ انغلق الأفراد على هوياتهم الخاصة، تهيأ لخطاب الكراهيّة قدرة النفي والإزاحة والتحييد، وحين يمتلك القدرة على استبدال العام بالخاص، أو تعميم الأحكام القطعيّة والنهائية عن الآخرين في سردية النفي والتهميش والاحتقار، فإنه يخطو خطوته الأولى في مصادرة المنطق بالعاطفيّ، فإخماد التفكير العقلاني واخضاعه للغرائز هو الأداة الأهم لبناء خطاب الكراهيّة وانتشاره، كما أنه المكان الأنسب لاستثماراته ومكاسبه، فنحن السوريون عموماً خبرنا بما يكفي تداعيات هذا الخطاب ومآلاته، فالضرائب الباهظة التي ندفعها اليوم، ليست في المحصّلة سوى تنازلنا عن مواطنيتنا، أو تنازلنا عن أن نكون معاً وسويةً.
إنّ تنامي خطاب المواطنة السوري بعد ما يزيد على عشر سنوات من الحرب والاقتتال، يعبّر في الواقع عن رغبة الجميع في استعادة دور المفاهيم المؤسسة لهويّتهم التواصليّة و لمحتواها العام، فالتماسك الاجتماعي والسلم الأهلي أو أيّ مفهوم جامع لقوى الواقع المتشظيّة، ما هو إلّا نتيجة فعليّة لإعمال العقل في الواقع ومقارنة ما يمكن أن يُكسب بالعقل وما تمت خسارته من دونه، بمعنى أنّ استعادة قدرة الفهم أو النظرة النقديّة غير المتحيّزة من شأنها أن تزيح الكراهيّة، عبر تصور منطقي وبسيط يقوم على فكرة أننا محكومون بالحياة معاً، فمن دون هذه (المعاً)، سيستمر الواقع في إنتاج انحطاطه وترديه الأخلاقي، وستستمر عدم الثقة ـــ باعتبارها المنتج الأهم لخطاب الكراهيّة ــ في تكريس الصور النمطيّة للآخرين وبشكل مستمر وثابت، وبهذا تُفوّت الفرصة على الجميع في إنتاج عقد اجتماعي غير قابل للتزييف أو التحريف أو المصادرة، فالعقد الوحيد القادر على إنتاج مواطنة حقيقيّة، هو العقد الذي يضمن كرامة الجميع ومشاركتهم الفاعلة.
__________________________
اللوحة للفنان ألفريد حتمل

اترك تعليق