عن المضافة في حوران

شارل ديغول رئيس جمهورية فرنسا الحرة في مضافة ال الأطرش في السويداء 1942 اثناء التحضير لطرد حكومة فيشي في دمشق الموالية لالمانيا النازية

ريما ابراهيم – سامر المصفي
…..
المضافة في حوران ذلك المكان الذي تترجم فيه قيم الكرم والشهامة والفروسية وإغاثة الملهوف إلى سلوك وأسلوب حياة. قيم نبيلة وحاسمة لا يمكن التهاون معها أو تجاهلها، فهي التي تعطي للجماعة والعشيرة رصيدها وتمايزها، وعليها تبنى مفاهيم الانتماء الفردي والجمعي للمكان وتبقي الرابط التاريخي مشدوداً إلى إرث السلالات المتجذر في المكان. منها يستمد ابن حوران مكانته وحضوره الاجتماعي والسياسي والثقافي في المجتمع.(1)
……
_الحضور التاريخي والوطني:

تاريخياً كانت المضافة ملجأً آمنا للزعماء الوطنيين السوريين المطلوبين من قبل السلطات سواء التركية أو الفرنسية (مثل شهداء 6 ايار الذين احتموا بالجبل لثلاثة أشهر. كذلك إبراهيم هنانو الذي بقي مقيما لشهر في مضافة نجم عز الدين الحلبي في قرية الثعلة، بالإضافة لعدد من رجالات الحركة الوطنية الدمشقية مثل الشهبندر ونسيب البكري ومؤيد العظم وغيرهم). كما أنها-في وقت لاحق- كثيرا ما استقبلت ملوك و رؤساء دول و زعماء سياسيين ورجالات دولة ومفكرين وشعراء (مثل الملك فيصل وشارل ديغول وعبد الناصر وشكري القوتلي وأديب الشيشكلي والشاعر القروي رشيد سليم الخوري وغيرهم الكثير)
وليس أعظم على ابن حوران من أن تهان مضافته، أو أن يعجز عن القيام بواجب من دخلها ضيفا أو طلبا لحماية أو مساعدة. (هذا ما لم يفهمه الفرنسيون عندما اعتقلوا أدهم خنجر الذي احتمى بمضافة سلطان الأطرش. فأشعل ثورة من أجله ( الثورة الأولى ١٩٢٢). ورداً على معركة تل الحديد التي حاول سلطان فيها استعادة أدهم خنجر قامت الطائرات الفرنسية بقصف بيت سلطان في القريا. أما سلطان فقد رفض إعادة بناء مضافته وقال يومذاك “المضافة اللي ما بتحمي دخيلها أولى تنهد”.

-التصميم والعمارة:

ولتصميم المضافة هندسيا ومعماريا تقاليده الخاصة والمميزة، فهو تصميم يتماهى مع العادات والتقاليد المتوارثة، وأسلوب حياة التصق بأهل حوران سهلاً وجبلاً، حتى بات هناك نمطا معمارياً خاصاً مستمراً منذ القرن الخامس الميلادي يطلق عليه علماء الأنثروبولوجيا (العمارة الحورانية ) تجده في نمط بناء الكنائس المنتشرة في درعا والسويداء والذي استمدت المضافة منه تصميمها لتشكل فيه إحدى أبرز سمات الهوية المحلية، والتراث المادي الحوراني.
قديما كانت المضافة عبارة عن غرف كبيرة واسعة تبنى من الحجر، والسقف عبارة عن قطع صخرية كبيرة مستطيلة الشكل تسمى ( الرَبَد) (استبدلت لاحقا بجسور من الحديد). تغطى بالقصب والتراب. وعادة ما يكون موقع المضافة في واجهة المنزل الأمامية، ولها مدخل مستقل عن البيت ينفتح على فناء واسع، تتوسطه قناطر حجرية ارتكازية وجدران سميكة من الحجر البازلتي الأسود. وفي الداخل تجد مقعدا حجرياً يمتد على طول الجدران الداخلية يقال له في حوران ( التواطي ) ويتوسط المضافة حفرة مستطيلة تُملأ بالجمر تسمى (نقرة) توضع على أطرافها أباريق ودلال القهوة النحاسية، والتي لا يجوز لمضافة في حوران أن تخلو منها، وعادة ما تزين جدران المضافة بتعليق السيف العربي دلالة على الشجاعة والالتزام بحماية الضيف. أما في صدر المضافة فغالباً ما تجد صوراً لشخصيات ملهمة ورموز تاريخية أو رجال دين أتقياء . إلى جانب صور الآباء والأجداد. وأحيانا تعلق شهادات الأبناء الجامعية أو العسكرية (فجدران المضافة هي المكان الذي يترجم فيه أبناء حوران فخرهم بنسبهم وانتمائهم ومنجزاتهم).
…..
-الضيافة:

مفهوم الضيافة في حوران له تقاليده الخاصة و المشبعة بالتفاصيل ذات الدلالة ( أين يقف صاحب المضافة – المعزّب- أين يجلس ومتى، أين يضع دلال القهوة و كيف يقدمها .. ماذا يقول ..وعشرات التفاصيل التي تشكل بمجموعها إرثاً ثقافياً يتشاركه أبناء الجنوب كلغة سرية يتبادلونها و يفهمون جيداً مضمونها ودلالاتها. فتقديم القهوة العربية وهي من ثوابت الضيافة والترحيب هو( بروتوكول خاص) له آدابه المعروفة والمحددة بعناية فائقة، حيث يقدم الفنجان أولاً للضيف البعيد أو الكبير في السن، وقالوا قديماً “صبّها على ناس، وخصّها على ناس” كنوع من الترحيب الخاص والتكريم، أما في الأحوال العادية حيث يتساوى الحضور مكانة وقرباً من صاحب المضافة ( المعزب ) فتقدم القهوة ابتداء من اليمين على أن يتم تقديمها باليد اليمنى حصراً، بينما تمسك الدلة باليد اليسرى، كما لا يجوز إبداء الرأي بمذاق القهوة جيدا كان أم سيئاً. وتقدم القهوة للضيف بمجرد جلوسه على (التواطي) أيا يكن هذا الضيف: أمير أم فقير.(2)

المضافات مدارس:

يفهم جيدا أهل حوران ما قاله المؤرخ عبدالله حنا أن “المجالس في حوران مدارس” فللمضافة دور محوري في بناء المنظومة الفكرية والثقافية داخل المجتمع، قادر على خلق فضاء ثقافي عام، فهي أقرب في تكوينها إلى صالونات أدبية عامة يجتمع في سهراتها أدباء وشعراء ومفكرون، و تجمع جلساتها رجال دولة وصناع سياسة، تمنح للسكان الفرصة في إدارة شؤون المنطقة لما تحمله من رمزية في الوعي الجمعي ورصيد اجتماعي يجعل من قرارات المضافة قوانين ملزمة لا يمكن تجاوزها. ذلك أنها توفر اطاراً للتواصل بعيداً عن الأطر الرسمية، بل هو نموذج أقرب إلى ديمقراطية شعبية يستطيع المواطنون من خلاله المشاركة في تحديد خياراتهم السياسية والاجتماعية بشكل مباشر وطرح قضاياهم والتعبير عن آرائهم في الأحداث الراهنة. أو كما يحب أهل حوران وصفها: “مجلس للشورى والصلح وقرارات الحرب والسلم”.
….
الدور الحيوي للمضافة اليوم:

إن هذا الدور الحيوي للمضافة في حوران – وإن اختلفت أشكاله مع تغير نمط الحياة- إلا أنه لايزال مستمرا و حاضرا، لاسيما خلال الأحداث الكبرى، ولا تزال العديد من القرارات والاتفاقيات الهامة والمصالحات الكبرى تجري داخل المضافات وليس في المباني الحكومية أو مؤسسات الدولة، فهي قادرة اليوم بما تملكه من رصيد معنوي وبعد اجتماعي على إنتاج سلطة سياسية، وصياغة رؤية مستندة إلى المصلحة المشتركة لمختلف شرائح ومكونات المجتمع، لتسهم في صيانة السلم الأهلي وتعزيز الترابط والتكافل المجتمعي، من خلال مبدأ التشاركية وثقافة الحوار واحتواء الأزمات الأمنية، سواء داخل المحافظة الواحدة مثل حوادث الخطف والخطف المضاد، و تبرؤ العائلات من المجرمين وإصدار بيانات ومواثيق شرف برفض الثأر والاحتكام للقضاء الذي من شأنه منع الانجرار لاقتتال أهلي وتعزيز ثقافة القانون. أو بين المحافظتين الجارتين (درعا والسويداء) مثل المصالحات الأخيرة في آذار/2021 التي جرت في مضافة عوض الأسعد المقداد في بصرى على خلفية الاشتباكات التي وقعت بين أهالي القريا وعناصر اللواء الثامن في بصرى في آذار وأيلول من العام الفائت 2020 . حيث عقد اجتماعاً ضم وجهاء من كلا المحافظتين ساهم بنزع فتيل الأزمة وفرض الأمن في المنطقة.
فضلاً عن ذلك تحتضن المضافة اليوم كثير من المبادرات الخيرية والإنسانية التي تعود بالنفع على المجتمع والتي ازداد حضورها في السنوات الاخيرة مثل: مبادرة (مد قمح) في آذار 2020 التي قام بها ناشطون من السويداء واحتضنتها ثمان مضافات مختلفة في مدينة شهبا، وتم خلالها جمع حوالي 40 طن من القمح وتوزيعها على المحتاجين.

-مجالس لفعل الخير و إعادة الإعمار في درعا

في الأيام الأولى لشهر رمضان وزع أهالي بلدة “علما” أكثر من 60 مليون ليرة على 260 عائلة فقيرة، التجربة نفذت في غالبية مناطق درعا، وتواصلت في عموم المحافظة جهود إعالة الأيتام والفقراء،
كما أن مضافات درعا كانت حاضرة بقوة في ملف إعادة الإعمار، فأهالي “خربة غزالة” رمموا العام الماضي 2020، من خلال تبرعات أبنائها شبكات الكهرباء وأبدلوا إنارة الطرق الرئيسية بمصابيح تعمل على الطاقة الشمسية، وأصلحوا المدارس المهدمة وشبكات المياه وحفروا آبار مياه تكفي حاجة البلدة، وهذا ما حدث في العديد من القرى والبلدات.
وفي شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2020، جمع أهالي “الغارية الشرقية” عبر مجالس وجهاء البلدة مليار ليرة سورية لإعادة ترميم مستشفى “الإحسان” الذي دمر في يوم 27 حزيران/يونيو 2018 خلال الحملة العسكرية الأخيرة على درعا، وهذا ما حصل أيضا في مدينة “نوى” التي جمع أهلها مطلع العام الجاري 80 مليون ليرة سورية لترميم مستشفى “نوى الوطني”، في ظل انتشار جائحة كورونا، كما جمع مدينة “بصرى الشام” صيف العام الماضي أكثر من 200 مليون لإصلاح أجهزة ومرافق مستشفى “بصر الشام الوطني”
————————–

هوامش:
1-من إحدى مطالب الثوار الفلاحين في ثورة العامية 1889 في جبل حوران كان الحق بفتح المضافة واستقبال الضيوف وتقديم القهوة المرة.
2-في مذكراتها، تسجل الرحالة الانكليزية الشهيرة (غيرترود بل) استغرابها عندما زارت شيخ الدروز شبلي الأطرش في مضافته عام ١٩٠٥ في قرية عرى كيف أنهم يقدمون القهوة للأمير وللفلاحين الذين يعملون لديه – وللنساء إن وجدن- في الوقت ذاته، وفي الفنجان ذاته، وكأن الفوارق تزول بينهم عندما يتعلق الأمر بشرب القهوة

اترك تعليق