اللوحة للفنان حمد الحناوي
يبدو غريباً السؤال الذي يطرحُه أستاذ علم النفس الأمريكي والباحث (جيفري أرنت)1 في نظريتة (Emerging adulthood سن النضج المستجد): لماذا الجيل الحالي لا يريد أن يكبر؟
ويضيف بأن سمات المراهقة امتدت عند هذا الجيل (جيل الألفية) حتى العشرينات، وبالتالي هناك تأخُر في سن النضج عن الحد الطبيعي الذي كان متعارفاً عليه. فبعد أن كان للجيل السابق مرحلتان متمايزتان هما:
1- مرحلة المراهقة من 10 الى 15 سنة.
2- مرحلة النضج من 15 الى 20 سنة.

أصبح لدى جيل الألفية مرحلة أخرى في المنتصف، أطلق عليها السيد أرنت مرحلة (النضج الناشئ)، من 20 إلى 30 سنة، لتصبح مرحلتي المراهقة و النضج محددة بـ: (أصغر من 20، وأكبر من 30)
لكن..ما الذي قد يعنيه ذلك؟ :
يتابع جيفري أرنت: إن الجيل الحالي لم يعد يتبع الطريق التقليدي في النضج الذي كان يحدث في عمر العشرينات في الأجيال السابقة، حيث أن النضج ــ والكلام ل جيفري ــ يتميز ب 5 سمات عامة:
1. إنهاء الدراسة/2.الانتقال من منزل العائلة/ 3. الاستقلال المادي/ 4. الزواج/ 5.الإنجاب
ولو نظرنا حولنا إلى جيل الألفية الحالي لن نجد لهذه السمات من أثر، بل أصبحت هذه المرحلة (العشرينات) هي مرحلة اكتشاف الذات والهوية ومفترق الطرق، وأبعد ما تكون عن الاستقرار، أو النضج كما يراه أستاذ علم النفس أرنت، وعدد كبير من الباحثين حول العالم.

من جهة أخرى: كثيراً ما نسمع ونقرأ كلاماً من جيل الألفية أن النظرة إلى جيلهم دائماً كانت نظرة سلبية، ويتم اتهامهم بالأنانية والنرجسية، ولا يريدون أن يكبروا، وهو توصيف سنجده بكثرة في الصحافة ومقالات الرأي، وكذلك في بعض الأوساط الأكاديمية. إلا أن الدكتور جيفري له رأي آخر، ويقول بأن العكس هو الصحيح: “أن هذا الجيل طموح جداً، ومعاييره عالية ويبحث عن حياة أفضل من تلك التي عاشها أهله، يبحث عن تجربة زواج أفضل من تجربة والديه، وعن عمل يحقق له المعنى وليس فقط المال”
وبطبيعة الحال يعزز التقدم التكنولوجي، واتساع الآفاق المعرفية شعور هذا الجيل أن فرصَهُ ستكون أفضل من الجيل السابق، لكنه مع ذلك ــ وفي الوقت نفسه ــ يعاني من معدلات مرتفعة من الاكتئاب والميل الى العزلة والوحدة (والكلام هنا للإحصائيات)، فضلاً عن اضطرابات القلق، وشيوع المزاج الحزين، والإحساس بفقدان الوجهة، وشعور اليأس الذي بات يعتبر أشبه بسمة عامة. إن جاز القول
هل يعاني جيل الالفية من الوحدة؟ هل الوحدة خيار شخصي؟ وهل هي معاناة؟
/غالباً لن تعطينا هذه الأسئلة ــ لو أمعنّا النظرــ ترف الاختيار بين (نعم أو لا)/.
لكن قبل الحديث عن الوحدة لابد من التنويه إلى أن إطلاق وصف (جيل) لا يخلو من تنميط يُسبِغ على عدد كبير من الأفراد صفات محددة ليس بالضرورة تطابقها بينهم، وهو نقد موضوعي بلا شك لمفهوم الجيل بوصفه مقولة تحليلية، إلا أن المقصود هنا بكلمة جيل، هو أنهم أشخاص ولدوا في وقت محدد، وتعرضوا لظروف متشابهة أثرت على حياتهم المادية والمعنوية، (كظرف الحرب الذي عاشه جيل العشرينات في سوريا مع بداية تشكل وعيهم، والذي أثر بشكل كبير على نظرتهم للحياة، و رؤيتهم لمستقبلهم، وعلى طريقة تعاطيهم مع استحقاقات الانتماء والانخراط في المجتمع، ).
– (بليز باسكال) المفكر والفيزيائي الفرنسي الشهير، وصاحب الإنجازات الكثيرة في مختلف مجالات العلوم والفلسفة (رغم انه مات بعمر 39 فقط) كان قد كتب قبيل وفاته مجموعة من التأملات الفلسفية، يقول في إحداها “إن جميع مشاكل البشر تنبع من عدم قدرتهم على البقاء في غرفة لوحدهم”.
ويرى أن مشكلتنا مع العزلة هي مشكلتنا مع الملل، ومع البحث عن عوامل التشتيت التي تلهينا عن البقاء وحيدين. إذ أن عوامل التشتيت هي المسؤولة عن ابتعادنا عن حقيقة ذواتنا التي يمكن أن نتميز من خلالها، بل إن كثيرين يعيشون حياة كاملة من دون البحث خلف هذا القناع عن ذواتهم الحقيقية”
هل هذا صحيح؟ لماذا إذن جميع نظم الحضارة البشرية، والنظم الاجتماعية: الأسرة/ العائلة الممتدة/ العشيرة/ الطائفة..الخ، كلها قائمة على فكرة أساسية، هي عدم إبقاء الإنسان وحيداً، (حتى أنه قديماً كانت عقوبة المنفى تعتبر أقسى من عقوبة الإعدام)

كما أن “الإنسان يتعلم الخبرات الاجتماعية بالمحاكاة” بحسب تعبير الأنثربولوجي الفرنسي رينيه جيرارد.
لكن: ماهي الوحدة؟ ما هي دلالات الشعور بالوحدة؟ لماذا يأتي علينا وقت نشعر فيه بمرارة هذا الشعور؟ وبأنه لدينا رغبة عارمة بالتواصل مع الآخرين؟ لماذا يجب أن يكون ثمة آخرون دوماً؟
يشرح الأديب المكسيكي (أوكتافيو باث)2 في مقال شهير بعنوان (جدلية الشعور بالوحدة)
بأن “الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشعر بأنه في عزلة، وأن الشعور بالوحدة هو رغبة الإنسان بالتحقق من خلال الآخر”، أي أننا نبحث عن ذواتنا في الآخرين، نحب من يشبهنا، من نجد فيهم صفات مشتركة معنا، ذلك ما يجعل الإنسان كلما بقي وحيداً، شعر بافتقاد لوجود الآخرين، وبحسب (باث) فإن “الحياة هي انفصال عما كنّاه، لكي نلجَ الى ما سوف نصيره”، بالتالي فإن الشعور بالوحدة هو شعور بالفراغ و بالنقص، بمعنى أن الإنسان يشعر بنفسه، أو يتعرف على نفسه من خلال ما ينقصه وليس من خلال ما يمتلكه. وبالتالي فإن ما ينقصك هو ما يشكل غالبا مشاعرك ورغباتك.
يعتبر باث أن “الشعور بالوحدة يبدأ منذ الولادة” ويقصد في مقابل الحالة الجنينية التي لا يشعر فيها الطفل/الجنين بأي احتياج أو نقص، (بسبب الحبل السري المتصل)، أي لا وجود لرغبات غير مشبعة، لكن بمجرد قطع هذا الحبل والانفصال، يبدأ شعور النقص بالتشكل، ثم نكبر ويبدأ الوعي بالتشكل تدريجياً حتى مرحلة المراهقة، والتي عندها يتشكل الوعي بالذات، إذ لأول مرة يستشعر المراهق كينونته ورغباته وشخصيته، ولكون الوعي هو أمر مؤلم، فغالباً ما تكون مرحلة المراهقة مرحلة صعبة على الطرفين: الأهل والمراهق معاً، وتبدأ معها الثورة على الأعراف والتقاليد المرسومة والمعدة سلفاً، والتي تتعارض مع ما يريده الوعي الذي بدأ يدرك جيداً أن ما يريده مختلف عما يريده الأهل والمجتمع، ومتعارض مع ما هو متعارف ومتفقٌ عليه.
يستمر هذا الصراع حتى يصل الشخص إلى ما يسمى ــ مجازاً ــ النضج، أي نسيان الذات الحقيقية، المرحلة التي يفقد فيها الشخص تفرُّدَه، ويتوحد وعيُه مع وعي الآخرين، والتماهي مع الصورة المجتمعية: أي مع ما هو مطلوب من الشخص ليكون فرداً جيداً وراشداً. (كما لو أنها عملية تجارية مع الزمن، تبيع فيها حقيقةَ ذاتِك لتشتري بها قبولك)، وبذلك يصبح الإنسان المتمسك بفرديته ــ المهددة بخطر الوحدة ــ، حالة شاذة في المجتمع.
الوحي حظ الوحيدين
مجدداً..
لو تساءلنا: ما مدى صحة تلك المقولات التي نجدها في كلام كثير من المبدعين عندما يتحدثون عن سرّ إبداعهم من قبيل: الإبداع هو البقاء وحيداً، الوحي هو حظ الوحيدين، الوحدة تعزز الابتكار والأصالة؟ أو حتى العبارات المياومة في وسائل التواصل التي تمجد الوحدة والابتعاد عن البشر
الفيلسوف الرواقي3 (إيبرتيتوس) يقول “عندما تزرع الفراغ الذي في داخلك فإن ذلك ما يجعلك قادراً على تحمل الوحدة، وهو ما سيجعلك أقوى وأكثر قدرة على الاختيار في مسائل الحياة الحاسمة”، //ورغم أنه كلام جميل لكنها ليست دعوة للعزلة بأي حال، بل لعلها دعوة لاستثمارها وعدم الخوف منها//
ثمة فكرة ملفتة طرحها عالم النفس الإنجليزي (دونالد وينيكيت) في نظريته (the capacity to be alone القدرة على البقاء وحيداً) تستحق التوقف عندها:

“إن الخوف من الوحدة يخلق لدينا حالة من الاعتمادية على الآخر تجعلنا مع الوقت مطيعين” أي أننا في كثير من علاقاتنا مع الآخرين، نقبل بأشياءَ هي في الغالب لا تعجبنا، ومع الوقت تنشأ لدينا شخصية رد الفعل، أي أنك تصبح شخصا محبوباً ليس لأن هذه حقيقتك، بل لأنك كونت شخصيتك من خلال استلهام ما يعجب الآخرين”.
وللخروج من شخصية رد الفعل ــ ولا أعرف إن كان ذلك سهلاً ــ، يطرح وينيكيت حلاً يتمثل بالاعتكاف مع الذات، حتى يتسنى لك تجاهل ما يعجب الآخرين لتصبح ردود أفعالك نابعة من ذاتك الحقيقية
أخيراً..
الألماني الملهم (راينر ريلكه)، أحد أكثر شعراء القرن الماضي نبوغاً، له كتاب لطيف بعنوان (رسائل إلى شاعر شاب) هو مجموعة رسائل وجهها إلى شاعر شاب يحثه فيها على الاستماع إلى صوته الداخلي، وفي واحدة من رسائله تلك يقول: ” إن الوحدة في بعض الأوقات لا تُحتمل، وأن نمو الوحدة مؤلم مثل نمو ضرس العقل، لكن في الصبر عليها ستجد بأن أحكامك وانطباعاتك في الحياة تتغير نحو الأفضل، ذلك الصبر الذي لا تسري عليه حسابات الزمن”
ويختصر والد الشعراء المصري فؤاد حداد 4 ذلك بسطرين:
“النهاردة، كُنت كويّس قُدام الناس…بس مكنتش أنا
ومش عارف إمتى ح كون كويس…وانا”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش
- جيفري جونسون أرنيت، أستاذ في قسم علم النفس بجامعة كلارك في ماساتشوستس. اهتمامه البحثي الرئيسي هو “مرحلة البلوغ الناشئة” ، وهو مصطلح صاغه ، والذي يشير إلى المرحلة المتميزة بين المراهقة وسن الرشد ، والتي تحدث من سن 18 إلى 25.
- أُكتافيو باث، شاعر وأديب مكسيكي مواليد 1914 حصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 1990
- الرُّواقيَّة: مذهب فلسفي أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون في بدايات القرن الثالث قبل الميلاد. تندرج الرواقية تحت فلسفة الأخلاقيات الشخصية، ووفقاً لتعاليمها، فإن الطريق إلى السعادة أو الراحة الدائمة يكون بتقبل الحاضر، وكبح النفس من الانقياد للذة أو الخوف من الألم، عبر مَشُورَةِ العقلِ لفهم العالم وفِعلِ ما تقتضيه الطبيعة.
- فؤاد حداد، 1927-1985، من أبرز شعراء العامية المصرية، يلقب ب والد الشعراء، ولد في القاهرة لأسرة من أصول سورية