في تفكيك أوهام الأكثريّة والأقليّة 

          معتز فصيح سلّام

في أوائل القرن العشرين، اختار جناح لينين داخل الحزب العُمّالي الاشتراكي الديمقراطي الروسي أن يتسمّى بـالبلاشفة – أي “الأكثرية” – في مقابل “المناشفة”، أي الأقلية. لم يكن هذا الاختيار اعتباطياً، بل جزءاً من صراع أعمق على احتكار تعريف “الإرادة الشعبية” ومن يحق له تمثيلها. ومع أن موازين القوى داخل الحزب تغيّرت لاحقاً، فقد استمر هذا الاحتكار الرمزي في إنتاج شرعية تُقصي وتُخوِّن كل مخالف، حتى أصبح الخروج عن الخط البلشفي يُصوَّر كتهديد للثورة ذاتها.
هكذا، تحوّلت البلشفية من تعبير عددي إلى هوية سياسية تنتج الشرعية وتحتكر الحقيقة، ثم إلى سلطة تُجرّم الخصوم: المناشفة، الاشتراكيين الثوريين، ثم التروتسكيين… إلخ. وباسم “الأكثرية”، حكمت أقلية ثورية الجميع، وفرضت نموذجها بوصفه الأصل، بينما دُفع بالمخالفين إلى هامش الثورة، بل إلى خارج الفضاء الشيوعي كله.

استعرنا هذا المفهوم “البلشفية” لأنه نموذج مباشر وواضح عن ديكتاتورية وسلطوية الأغلبية بدلالة الاسم والمعنى، وليس ـــ بالتأكيد ـــ بدلالة التمثيل السياسي البرلماني بمعناه المعاصر. من هنا، يبدو استحضاره مفيداً لفهم ما يجري في الخطاب السياسي والإعلامي في سوريا اليوم حول مفهومي الأكثرية والأقلية.
هذا الخطاب الذي يُعاد إنتاجه بحدة وعلنية – وربما هذا في حد ذاته أمر جيد – تغذيه حالة الانتصار على الأسدية وما رافقها من مظلومية، مثلما تغذيه حالة التخوف من نموذج مهيمن يحتكر الحياة العامة ويفرض شروطه على الجميع.

إن نظرة موضوعية على المجتمع السوري تبين أن الأكثرية في سوريا ليست عدداً واضحاً، ولا كتلة سياسية متجانسة، لكنها تُستدعى دائماً كذريعة: لتبرير الخطاب، وتحديد من يحق له التمثيل، ولتوزيع الوطنية وكأنها حصة إحصائية.
يتحدث البعض باسم “الأكثرية السنّية”، أو “الأكثرية العربية”، وكأن هناك كتلة متماسكة واضحة ناطقة باسم هذين المفهومين، في حين يشهد الواقع بأن “الأكثرية” – كغيرها – متشرذمة، متناقضة، وتعاني من التمثيل القسري ذاته.


هذا هو شكل البلشفية السورية اليوم، ليست حزباً، بل خطاباً واسعاً، يرفع اسم الأكثريّة ليُقصي، ويُدجّن، ويُخوِّن.

..

في الحقيقة، لا يستدعي تفكيك هذا الخطاب، ولا هذين المفهومين، اللجوء إلى الإحصاء أو عمليات الفرز، لأن هذا المسار لن يقود إلا إلى مزيد من الانقسام والتعقيد.
فبمجرد الدخول في هذا النوع من التصنيف، سنجد أنفسنا أمام خريطة هوياتية متداخلة، ومتناقضة أحياناً. فـ”الأكثرية السنّية” مثلاً، ليست وحدة متجانسة، إذ إن جزءاً منها ليس عربياً، وبعضها لا ينسجم مع التصورات السائدة عن هذه الأكثريّة، مثلما هي أيضاً الأكثرية العربية.
ولذلك يبدو هذا المسار وكأنه يكشف عن هشاشة المفاهيم التي يُفترض بها أن تشرح الواقع، لكنه في الحقيقة يعيد إنتاج أوهام الفرز والتجانس، ويُقصي كل ما لا يندرج ضمن هذه القوالب الصلبة.

لنذهب إذاً في التفكيك في منحى مختلف مع الفيلسوف جيل دولوز، حيث لا تُفهم “الأكثرية” و”الأقلية” كتصنيفين عدديين، بل كموضِعين ضمن بنية السلطة والمعنى.
فـ”الأكثرية” ليست ببساطة من يملك العدد الأكبر، بل من يحتكر النموذج المعياري للوجود: من يفرض لغته، قيمه، هويته، وشكل حياته بوصفها الأصل الذي يُقاس عليه كل شيء. إنها البنية التي تُعرّف ما هو طبيعي، وما هو شرعي.
وفق هذا، “فسوريا الأسد” ليست سوى نموذجاً للأكثرية، ونموذجها كان يعرّف ما هو صائب وما هو خاطئ، ما يجوز أو لا يجوز، وذلك في الحياة العامة، وكذلك الخاصة إلى حد بعيد. وقد فُرضت أكثرية أسدية لعقود على السوريين حتى انفجرت وفجّرت المجتمع السوري معها.

بالمقابل، فإن “الأقلية” ليست حالة نقص عدد أو تمثيل فقط، بل هي حالة رفض أو خرق لهذا النموذج المهيمن. إنها لحظة الخروج عن التماثل، والانزياح عن المركز، والعيش في موقع لا يعترف به الخطاب السائد بوصفه ممثلًا للعموم.

من جهة أخرى، ومع جاك دريدا هذه المرة، يمكن القول إن هذا الهامش/الأقلية هو جزءٌ بنيوي من تشكّل المركز نفسه. أي لا يشكّل نقيضاً للمركز أو “الأكثرية”، بل شرطاً لوجوده.
فالمركز لا يتكوّن في فراغ، بل يتحدد دائماً من خلال ما يقصيه أو يستبعده، ويحتاج إلى هامش ليُعرّف نفسه ويبرّر سلطته.
وهذه العلاقة البنيوية تعني أن نقد المركز لا يمر فقط عبر رفض سلطته، بل عبر مساءلة آليات التهميش التي تُنتجه.
ومن هنا، كلما ازداد التمركز وتشدد في تعريف نفسه، كما هو الحال في الخطاب السوري اليوم، ازداد التهميش واتسع نطاقه. ومعه، تتسع دائرة “الأقليات” لتشمل حتى من يظن نفسه جزءاً من “الأكثرية”، إذا لم يَتماهَ تماماً مع النموذج المعياري الذي يفرضه المركز.
وعليه، فإن ما يُفترض أنه “أقلية” – سواء كان طائفة أو قومية أو هوية جندرية أو بنية ثقافية – لم يعد مجرد موقع تهميش، بل تحوّل إلى موقع نقد وتفكيك وحركة تغيير.

لكن هذا لا يكفي، ففي إطار تفكيك ثنائية المركز والهامش، من الضروري التوقف عند مسألة التقاطع أو التداخل بين مواقع القوة والهشاشة داخل الفرد نفسه.
فالفرد ليس وحدة ثابتة تنتمي إلى موقع واحد – إما مركز أو هامش – بل يحمل داخله طبقات مختلفة ومتغيرة من التمثيل والتهميش في آنٍ معاً.


وبالتالي، فإن موقعه الاجتماعي والسياسي لا يتيح له الوصول إلى مركز الخطاب أو التمثيل، بل قد يُقصى من داخله.

بالمقابل، يمكن لآخر أن يكون من أقلية طائفية أو قومية، لكنه ذكوري، ومتماهٍ مع النموذج المعياري السائد، فيشغل موقعاً سلطوياً داخل مجموعته أو داخل النظام العام.
أي أن الهامشية ليست نتيجة هوية جوهرية، بل تنتج عن رفض أو تبنّي النموذج المعياري السائد في لحظة ما.

هذا يعني أن ثنائية الأكثرية/الأقلية، كما يُعاد إنتاجها في الخطاب السياسي السوري، تُغفل هذه التداخلات الدقيقة.
فهي تُحوِّل الانتماء الطائفي أو العرقي إلى موقع نهائي للهوية، وتُسقط الاعتبارات الجندرية، الطبقية، الثقافية، والذاتية.
وبهذا المعنى، فإن النضال ضد المركز لا يكون فقط بمواجهة “مركز الأكثريّة” الطائفي أو السلطوي، بل بمساءلة كل أشكال التماثل القسري داخل البُنى الهوياتية ذاتها، بما فيها تلك التي تُصنَّف على أنها “أقليات”؛ تلك التي تحوّلت في بعض السياقات إلى مراكز سلطوية مصغّرة، تعيد إنتاج آليات الإقصاء والتخوين والخضوع للولاء الجمعي.

..

في النهاية، لا يتعلق الأمر فقط بكشف زيف الأكثرية المتخيلة، أو بالتعاطف الآلي مع ما يُصنّف كأقلية، بل بتفكيك الأسس التي تُنتج المركز باسم الهوية، أو الثورة، أو الوطن.
إن الهامش/الأقلية – وفق هذا التصور – ليس موقع ضعف أو نقص، بل موقع مقاومة ومعنى.
وهو لا يسعى لأن يصبح مركزاً جديداً بطبيعة الحال، بل أن يزعزع فكرة المركز ذاتها.
إنه يُحرر المعنى من الاختزال، ويمنح اللغة حقها في أن تكون تعددية، ومفتوحة على الاحتمال. ومن هذا الموقع، يصبح الهامش شرطاً ضرورياً لإنتاج الاختلاف، لا نقيضاً للشرعية، بل أفقاً سياسياً بديلاً يُقاوم منطق الإقصاء والاحتكار، ويفتح إمكانية تأسيس حياة سياسية سورية لا تُبنى على الطائفة أو الأكثرية المتخيّلة، بل على التعدد والمشاركة والاعتراف المتبادل.

اترك تعليق