قراءة في رواية “لا ماء يرويها” للكاتبة والطبيبة نجاة عبد الصمد

في مبادرة مميزة بالتعاون مع منصة صدى الجنوب، وتحت عنوان “جسور” مجموعة من المشاركين/ات عبّروا عن رغبتهم بتأسيس نادٍ للقراءة التشاركية لمجموعة من الكتب المتنوعة، ونقاشها.
وكانت الكتابة الإبداعية أحد أوجه ونتائج هذه القراءات الممتعة والتي ما تزال مستمرة.
__________________________
قراءة في رواية” لا ماء يرويها” للكاتبة والطبيبة نجاة عبد الصمد.
تكتبها ل صدى الجنوب:
إيناس.
__________________________
عن العطش… “لا ماء يرويها”،

“ناصر.. كسر حياتي مرتين، توارى حين كان عليه أن يعود، و عاد حين كان عليه أن يتوارى .
ولا أزال انتظره، أنادم وحدتي و أنتظره، أتشوّى بجمار الندم و أنتظره، كما انتظرت أمي حسن الغريب أنتظره، أشيح الطرف عن أن للبنت حظ أمها و أنتظره.
وإلى أن تعود مراسيلي بخبر ،أدّخر اسمه كصلاة ، أستكثره على النطق، أحتفظ به كمفتاح الحكايات الندية ، أعفّ عن لمسه كي لا ينفرط عقد البهجة بين حروفه ،أخاف أن يطفو اسمه على وجهي أو جلدي أو لساني، أو يفلت مني خارج هذي القضبان في لحظة أسىً جارف.”
بهذه اللغة الشاعرية العالية ، تسرد الكاتبة السورية نجاة عبد الصمد حكاية بطلتها ( حياة) لتسرد معها سيرة الألم وتؤرخ لذاكرة المكان منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية الجديدة.
_____________________

أن تكوني امرأة هذا ألم
تتألمين حين تصيرين صبيّة
وحين تصيرين حبيبة تتألمين
وحين تصيرين أمّا…
ولكن ما لا يطاق على هذه الأرض
أن تكوني امرأة لم تعرف هذه الآلام كلّها
“لاغا ديمتروفا” شاعرة بلغارية

“لا ماء يرويها” … العمل الروائي
للكاتبة السورية “نجاة عبد الصمد”، هو تأريخُ السيرة الذاتيّة للعطش، عطش يتغلغل في شخوص الرواية ويتجاوزها، ليس فقط عطش الأنوثة، وعطش الحب والرحمة .. بل إنه عطش المكان / السويداء التي تعوم على بحر من المياه الجوفية وتعاني شح مياه الشرب، هو عطش الناس للسياسة والمشاركة عطش الزمان الجديد لقيم، وإرث غابر حمله الأجداد عندما دقوا صخور الجبل بمعاولهم وسكنوه
المكان الذي قررت الكاتبة أن يكون مسرح عملها، وتسميه باسمه وبأحيائه و شوارعه تؤرّخ بجماليّة محلّقة حالة العطش إلى الحبّ، وإلى الحياة.
من هذا العطش، من هذا المكان، انطلقت الروائيّة في تشخيص ألم الأنثى، ألم القرية والمدينة. فاختارت لروايتها عنوانَ “لاماء يرويها” ما قد يحيل القارئ إلى امرأة في هاء الضمير، ولكن سيكتشف بعد وقت قصير أنها إحالة إلى الأرض بجميع مكوناتها.

تدور الرواية بشكل أساسي حول شخصيّة “حياة” التي أحبت رجلا وزُوجت لٱخر.
ومن دون أن تخفى دلالات هذا الاسم
حياة/ التي عاشت محرومة من المعنى الحقيقي لإسمها.
هي قصة أنثى عاشت آمالاً عريضة في مجتمع يعيش تمييزا ذكوريا يصل الى حد الطغيان.
حكاية قد تبدو مألوفة لنا جميعا _وهي كذلك _ فهي حكاية كل فتاة وشابة وامرأة تعيش تحت وطأة مجتمع ذكوري ، بثوابت خانقة توارثتها الأجيال ورددتها، وقبلت أن تكون الحياة مسجونة في قبو وراء قضبانها، وبنسجها المتقن لفسيفساء الواقع المعيشي والجغرافي والثقافي والاقتصادي والديني لمسرح الحكاية، تمكّنت عبد الصمد من تلخيص حقبة تاريخية بالغة الأهمية من تاريخ سورية عامّة، والجنوب السوري خاصّة، لتضيء المفاصل المهملة في الحياة الاجتماعيّة، والتي قد تكون أسباباً مفتاحيّة لكل ما حدث ويحدث في سيرورة العنف الذي أطلقه الواقع السوري، مستتراً تحت عباءة البطولات والأمجاد والأسماء الرنانة والصور الغيبيّة. أو في مصادرة الجميع على الحياة.
إنّ أحداث الرواية وشخوصها محكومة بالألم، ألم نقص الحياة والعطش إليها،ألم غياب الحب.وغياب الحلم
قد يعود اختيار اسم البطلة (حياة)، للدلالة على توقف الحياة، بعد أن رمت سلطة الذكورة في بئرها كل الحجارة التي حجبت الماء، لتجعل الجميع محكومين بالعطش، فالأنثى المسلوبة الحرية والمحرومة من ممارسة إنسانيتها، ستنتج مجتمعاً محروماً ومسلوباً، مما يجعل من الجميع ضحايا، ذكوراً وإناثاً، متسلطاً ومقهوراً، فالثقافة التي وضعت السوط في يد الرجل جعلته يجلد ذاته بالمرأة التي يجلدها، والمرأة حين أُتيح لها هذا الدور مارسته بقهر وعنف لا يقلّان عن الرجل، إنّ مجتمع العطش يساوي بين الجميع في جعلهم وقوداً لدورة العنف المستمرة.
فالألم المتعاقب في سيرورة الرواية، يعرّي هشاشة الوجود السياسيّ والاقتصادي والاجتماعي لشخوصها، ويطلق العنان للبوح في المحظور، حيث هذا المحظور سواء كان دينياً أم اجتماعياً أم سياسياً، هو الرافد الرئيس لنهر العطش الذي يتدفق في الرواية، وإن كانت بيئة السويداء هي جغرافيا العمل التي منحته خصوصيةً في طرح بعض المشكلات المتعلّقة بثقافة خاصّة، لكن نهر العطش يتجاوزها إلى كل الجغرافيا السوريّة، فقوامة الرجال على النساء، ودونيّة المرأة، وارتباط الشرف بأعضائها الجنسيّة، ونتائج ذلك التي تصبّ في جريمة الشرف، هي ثقافة سوريّة عامة، تتباين اشتداداً بين منطقة وأخرى، فجميع النساء هنّ تحت خطر الموت سواء كانت يد أبّ أو أمّ أو أخّ أو زوجّ أو ابنّ …
إن الفعل الروائي عند نجاة عبد الصمد هو فعل انتماء للحياة عبر إدانة الموت، ففي جميع الخطوط الدراميّة للعمل وفي جميع تقاطعاتها، لم تتنازل عن الشعريّة الذكيّة في متن السرد، وربما يعود لجمال هذا العمل القدرة الأكبر على فضح القبح السياسي والثقافي الذي ينتجه الواقع، (لا ماء يرويها) على الرغم من نبشها في تاريخ العطش، إلّا أنها محاولة جديّة لمقاربة الوفرة، في قدرة الأفراد على خلق علاقات تطفئ هذا الظمأ إلى الحب والجمال والحياة.

اترك تعليق