لوحة الغلاف للفنان تمّام عزام

في محاولته لإيجاد تعريفٍ لمفهوم التابو(1)، يقول فرويد: “ينطوي مفهوم التابو على دلالتين متعارضتين: فهو يدل من جهة على الشيء المقدّس، ومن جهةٍ أخرى، يدلُّ على الشيء المقلِق، الخَطِر، والمحظور”.

الفكرة الأساسية المتعلّقة بالتابو هي ضرورة تفاديه، حيث يتجلى جوهرُه في نواهٍ وتقييدات، وأن الحرام ــ يضيف فرويد ــ ينبع من المصدر نفسه الذي تنبع منه غرائز الإنسان الأكثر بدائية والأكثر ديمومة، وبالتالي يحافظ على صفة ستبقى مشتركة دوماً بين المقدّس والمدنّس.(2)

سيغموند فرويد

يتجلى هذا المفهوم في مراحل التنشئة منذ الطفولة المبكرة، حيث يشكّل تحديد مواعيد الرضاعة وعدد الرضعات اليومية، أولى ملامح المنع التي تصوغها الأم في علاقتها الأولية المبكّرة بالطفل، وخلال مسيرة النمو سيتخذ المنع صوراً أعقد، لكنها بتعقيدها هذا، تُدخِلُ الطفلَ في الحياة الاجتماعية. بينما يقف الطفل منذ تلك اللحظة التي مُنع فيها من الرضاعة، أو ما نطلق عليه اسم (الفطام)، يقف في مواجهةِ أولى خساراتِه، حين يصبح الثدي موضوعاً محرّماً، ويتحوّل إلى (تابو).

بعد أن يقبل الطفل “أكبر خساراته” ويبدأ بدخول المنظومة الاجتماعية، سيواجَه بالعديد من المحظورات، ويُضطر للتخلي عن ميله القوي لانتهاك القوانين إلى أن يمتلك ضميره الخاص؛ فلا حاجة عندها إلى تهديدٍ خارجي حيث يدرك بيقينه الداخلي أن انتهاك المحظور لا بد ستتبعه ــحسب فرويد ــ “مصيبة رهيبة”.

يستخدم “فرويد” مفهوم الأنا الأعلى حين يتحدّث عن آلية تشكّل الضمير، ويميز نوعين من الأنا الأعلى، يتكوّن أولهما من العلاقة مع الأب والأم ويسميه: “أنا أعلى أبويّة”، ويصفُه بأنه يحمل شيئاً من العاطفة والرحمة من الأبوين حين يعاقبا الطفل، أو يطلبا منه أن يفعل كذا ولا يفعل كذا. يعاقبانه لكنهما يحبانه في الوقت نفسه، وبالتالي يمارس الأبوان مع أطفالهما أفعالاً تحمل العقوبة والحب والتسامح في آنٍ معاً. بينما يُطلق على النوع الثاني من الأنا الأعلى إسم (الإجتماعي) الذي لا يحمل عاطفةً ولا حباً، ومن أشكاله الأكثر أهمية وشدة، هو الدولة، حيث يمكن لهذا النوع الثاني ــ فيما لو انفصلت الأسرة عن المجتمع ــ أن يتغلّب على الأبوي العطوف بطريقةٍ حاسمة.  

الأنا الأعلى، والتابوهات الثلاث

ماذا يفعل الأبوان هنا؟ إنهم يعلمون أولادهم، عملياً وليس نظرياً، كل ما يتعلّق بهذين النوعين من الأنا الأعلى، أي من قوانين المنع، وحين يفشل الآباء في نقل هذه المعرفة لأولادهم فإنهم يضعونهم في مأزقٍ حقيقي، خصوصاً عندما يواجهون النوع الثاني من الأنا الأعلى، الذي يتمثّل بالدولة، ويصوغ قوانين السماح والمنع، ويمارس جميع أشكال التحريم بصرامةٍ بالغة.  

الطوطم والتابو

يتسع التحريم، كما هو معروف، في المجتمعات الذكورية ليشمل التابوهات الثلاثة: السياسة والدين والجنس، وكثيرا ما يعجز الآباء (في المجتمعات الذكورية على وجه التحديد) عن منح أولادهم حق المعرفة، فمن جهة يفتقد هؤلاء الآباء أنفسهم إليها، ومن جهة أخرى يتصوّرون أن الحصول عليها منوطٌ بالطاعة. سواء طاعتهم هم للسلطة التي وضعت نفسها فوق التحريمات، أو طاعة الأبناء لهم. وفي الوقت الذي تلعب فيه منظومة السلطة دوراً كبيراً في تفريغ الأعراف والقوانين من مضامينها الفكرية والأخلاقية، وتعلي من شأن الهيمنة على أبسط مفاصل الحياة، يصبح المجتمع ذا لونٍ واحد، وهذا بدوره يؤدي إلى انحسار ما يمكن أن تصوغه الأسرة من قوانين، ليحل محلها التعسف في فرض محرمات جديدة كل يوم. 

إذا أخذنا الجنس مثالا، فإن قانون المنع يضيق مع الأطفال لينحصر في هذا التابو بالدرجة الأولى، ويطال كل ما يتعلق بتشويه المعرفة حول الجنس سواء بيولوجيا، أو اجتماعيا، أو نفسيا، “وسوف يتكوّن وعي زائفٌ خاص بالجنس، وكل ما يتعلق به من قضايا، لأنه أتى نتيجة تجربة مرتبكة غير صحية؛ ستتبعه نتائج قد تكون وخيمة على شخصية أي إنسان؛ فتؤثر سلبًا على بعض سلوكياته وقناعاته. ولأن الفتاة هي دائما العنصر الأضعف في معادلة أي مجتمع ذكوري، وهذا هو حال مجتمعنا، فإنها دائمًا الضحية الأولى لأي تخلف في الوعي يأتي نتيجة ضعف الثقافة الجنسية “. فمعرفة الإناث المتعلقة بالجنس تنطوي على “اضطهاد مزدوج” يطالبها من جهة بطمس ما تعرف (إن حدث وعرفت)، وكذلك يفرض عليها الامتثال دون مناقشة لرغبات الذكور في محيطها.

لا يعني هذا بالطبع أن الذكور لا تطالهم نتائج المعرفة المشوّهة، بل ويضاف إليها أيضا تعزيز استعراض هذه المعرفة واستخدامها بتباهٍ مريض كسوطٍ على رقاب الإناث.

ولكي يأخذ التضييق على التنشئة الجنسية الصحية مداه الأقصى يتم ربطه بالمحرّم الديني والسياسي معاً، حيث يؤثر كل منهما في ترسيخ فكرة الممنوع ليس بصفته رادعاً شعائرياً أو عرفاً، إنما خطرٌ مميت، فالمؤسسة الدينية تلعب دور العارف الذي يراكم النواهي ويضخمها كلَّ حين، بينما تتولى السلطة السياسية مهمةَ إنزال العقوبات بمن يسعى إلى المعرفة الحقة؛ فالمعرفة هنا: حرية، وليس ثمّةَ ما هو (أخطر) من فكرة الحرية كمؤرقٍ يقض مضاجع” الزعماء والكهنة”.

هامش

1-التابو ( taboo) كل تحظير يفرضه العرف او العادة او تسنه القوانين/ ما هو محرّم لمسه او حيازته او النطق به

2- سيغموند فرويد، الطوطم والتابو، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة

اترك تعليق

الكاتب

اقرأ أيضا

تابعنا

شارك المقال