لأصدقائي في الثلاثينات

في عام 1965 نشر إليوت جاك كتاب بعنوان (الموت، وأزمة منتصف العمر)، اقتبس فيه كلاماً لشاب في الخامسة والثلاثين يصف حياته:

سابقا كانت الحياة بالنسبة لي جبل أصعد إليه إلا أنني اليوم في الخامسة والثلاثين أشعر بأني وصلت إلى قمة هذا الجبل وليس أمامي سوى الهبوط

عمر الثلاثينات هو الذي انتظرناه  في طفولتنا والذي سيأتي معه كل شيء حلمنا به، العمر الذي يسألنا فيه الHR  أين تجد نفسك بعد خمس سنوات؟

اليوم بدأنا نسأل أنفسنا:

هل أنا هو الإنسان الذي كنت أريد أن أكونه عندما كنت صغيرا؟ الذي حلمت أن أكونه؟

أهذا هو العالم الذي ركلت بطن أمي من أجله؟

في الماضي كما يقول ألبير كامو: “كنا محمولين على الزمن”

يقصد. كان ثمة عزاء لكل فشل وإخفاق بأن المستقبل سيكون الحل لأي معضلة، تلك المقولة التي يرددها المرء في مستهل حياته( عندما أكبر سوف…)

ذلك ما يجعلك راضياً عن حياتك لسببين: الأول لأنك مستسلم لفكرة أن الحاضر ليس في يدك

ألبير كامو مفكر وكاتب مسرحي فرنسي

والثاني هو غداً. الذي سنعيشه ونحقق فيه ما نريد، وفجأة يجد المرء نفسه في منتصف الثلاثينات وبأن غداً.. هو اليوم الذي عليك أن تحقق فيه ما يجب أن تحققه. لكن مع دستة من المسؤوليات، ليصبح هذا ال غداً ألدَّ أعدائك بعد أن كان الرفيق والعزاء ومبعث الرضى.

وليبدأ التفكير في كل فرصة ضاعت لكونك بدأت تشعر بأنك مقبل على الفصل الأخير من شبابك، وتتساءل عن جميع التفاصيل:

هل هذا هو العمل الذي أريده؟ هل هذه الفتاة التي أريد الزواج منها؟ هل هذا هو الزوج المناسب الذي حلمت به؟

هل هناك خيارات أفضل ستقدمها لي الحياة؟ أم أن هذا كل شيء؟

وثمة أيضاً أزمة هوية مضاعفة للنساء، لمن ما زالت خياراتها معلقة في الحياة:

هل فرصة العمل هذه هي التي سوف تؤمن مستقبلي؟ هل لو تزوجت مبكراً كان السيناريو  الأفضل لحياتي؟ هل اللواتي تزوجن مبكراً حياتهن أفضل من حياتي؟

فبقدر ما لدينا خيارات متعددة، إلا أننا لا نملك الخبرة الكافية التي تساعدنا على اتخاذ القرار الصحيح.

(ثيريان سيتيا) أستاذ الفلسفة بجامعة بطرسبورغ عندما وصل إلى سن ال35 شعر أنه غير راض عن حياته فقرر تأليف كتاب Midlife a philosophical gaide( الدليل الفلسفي لمنتصف العمر)، حاول فيه تقديم مقاربة لمجموعة كبيرة من الفلاسفة والمحللين النفسيين لأسئلة منتصف العمر، واستعان سنيتيا في كتابه بأحد خبراء الاقتصاد (ديفيد بلنشفلور) الذي صمم ورقة بحثية عام 2004 بعنوان (اقتصاديات السعادة) حيث اعتقد ديفيد بأن السعادة مثل كل شيء قابلة للقياس، وبقي لمدة عشر سنوات ينفذ اختبارات لأعداد كبيرة من البشر في 132 دولة، من مختلف الأعمار ويسألهم عن مستوى سعادتهم ورضاهم في الحياة، وبعد عشر سنوات نشر أول رسم بياني يعبر عن النتائج التي وصل إليها والذي كان على شكل حرف U 

وفي أعلى الرسم كان يسجل صغار العمر ومن هم في بداية حياتهم أعلى مستويات من الرضى والسعادة، ومثلهم كانوا كبار السن، لكن المنحنى كان يهبط إلى أدنى مستوى في سنوات منتصف العمر.

ما يعني أن الشباب كانوا الأقل في مستوى إحساسهم بالسعادة والرضى عن حياتهم، ذلك أن الرضى بالنسبة لهم يكون في المستقبل، أما السعادة ففي الماضي، رغم أن كبار السن مروا بتجارب قاسية كثيرة، مثل فقدان الأحبة، وأيضا فقدان الأحلام التي ماتت مع مرور الزمن، لكنهم مع ذلك في المقياس يسجلون مستويات عليا من السعادة. بينما في سن الثلاثينات تكون علاقتهم مع الخسارة والفقدان والموت وإدراكهم  لها  لا تزال علاقة حديثة، إذ يتحول الموت بالنسبة لهم من معلومة يعرفونها إلى حقيقة يرونها ويتعاملون معها ويطبقونها على أنفسهم.

في حين أن الفقد المتكرر مع الأشخاص والأحلام  يساعدنا في إعادة النظر إلى طبيعة الحياة وتقبلها كما هي، فكلما تقبل الإنسان فكرة موت الأشخاص من حوله، سوف يتقبل فكرة موته هو أيضا ويصبح هاجس العمر بالنسبة له أقل إزعاجاً.

الفيلسوف الألماني (أرثر شوبنهاور) كان مشهوراً بفكرة (عقم الرغبة) إذ يرى أنه لو تحقق لك كل ما حلمت به وكل ما تمنيته سوف تبقى غير راض كما أنت الآن تماماً، يقول: ( أنت ملعون إذا فعلت. وملعون إذا لم تفعل)، بينما يختلف سينيتيا مع هذا فيقول: بدلاً من أن تستشمر مشاعرك في أهداف كبيرة لها نهاية ونتيجة، أعطِ قسماً من وقتك لأشياء تشعرك بالرضى الفوري والسعادة الآنية. الرضى في الحياة ليس أمرا يحدث لنا عندما تكون حياتنا كما نريدها فعلاً، الرضى أمر يتعلمه الإنسان مع الوقت، أو لا يتعلمه.

في العالم الحقيقي لا أحد يحقق إنجازاته قبل منتصف العمر، فعندما تفتح فيسبوك و ترى أصدقاءك قد أنجزوا  أمورا هامة  فهي ليست المقياس الحقيقي، لأن مواقع التواصل تسجل لحظات توهج الإنسان. أوقات استثنائية قد تشعرك بالغيرة لكنها ليست واقع الحياة، فهي مجرد لحظات قد تتبدل سريعا أو يأتي وقت وينطفىء هذا التوهج، أو أنهم مثلك ينظرون لك بغيرة عندما يأتي دورك بالتوهج، بذات الوقت الذي يأتي على غيرك كلحظة إحباط. 

هي الحياة كذلك…

بكونك في الثلاثينات وتشعر بالإحباط أنك لم تحقق إنجازات كبيرة فهو فقط عندما تكون لاعب كرة قدم، فهو العمر الذي ستبدأ تخسر فيه فرصك كل يوم، أما باقي مجالات الحياة فالفرص والحظ هي أمامك وليست خلفك: (وهذا ليس وعداً بطبيعة الحال إنما هي النسبة الأكبر)

حتى ولو كنت واقفاً وحدك في مهب الريح أمام الحياة من دون إنجازات تشعرك بالدفء، إلا أنك تقف بكامل أخطائك وخساراتك وخبراتك التي تعلمت منها، والتي أوصلتك إلى هذه المرحلة من النضج وتحمل الحياة برغم كل ألمها ومساوئها.

في الثلاثينات أصبحت الأولوية هي أنت، بعكس الماضي الذي كنت فيه الطفل الذي يسعى لمجاراة توقعات أهله منه، أو في المراهقة عندما كنت تجاري توقعات أصحابك منك، وما الذي عليك فعله لتبقى مميزا، والذي كان يجعل من اختياراتنا وهويتنا في تلك المرحلة لا تعبر عن حقيقتنا.

أما العشرينات فكانت سنوات  التجارب والفشل، تجربة الدراسة، تجربة الحب، تجربة العمل.

الثلاثينات هيي مرحلة واجبات الإنسان نحو نفسه، الوقت الذي ليس لديك من ترضيه غيرك أنت، الوقت الذي يجب أن تختار بعناية الشخص الذي تريد أن تكونه.

الكثير والكثير من الفلاسفة والكتاب والمفكرين، يرون في الثلاثينات الفرصة الحقيقية الأولى للإنسان وخصوصاً في ظروفنا الراهنة اليوم، نحتاج لأن نعرف بأن التحدي الأصعب في الثلاثينات هو التكيف والتصالح مع الماضي والتحضير للمستقبل، التحدي الأصعب هو حالة الجفاف النفسي الذي تمر به الآن:

أن تبقى بحالة نكد وضيق ومؤجلا الرضى للمستقبل، لذلك في بعض الأوقات _وبسبب صعوبة الحياة_ من الضروري أن نحتفي بأخطائنا لأنها ستعلمنا، أو على الأقل أن نكون راضين عنها، وأن نرى ونقيّم الأشياء التي تمدنا بالسعادة والرضى المجاني في الحياة:

سهرة غناء مع الأصحاب 

صديق كجبل تتكىء عليه 

 ضربة حرة مباشرة في الدقيقة 90 يسجلها ميسي 

أو كما يقول محمود درويش:

سيري ببطءٍ يا حياةُ، لكي أراكِ بكامل النقصان حولي

كم نسيتكِ في خضمّكِ باحثاً عني وعنكِ

وكلما أدركتُ سرّاً منكِ، قلتِ بقسوةٍ: ما أجهلك

اترك تعليق