اللوحة ل هيلين الحرفوش

اطفأ المصور كاميرته، لكنها بقيت جالسة بثبات تمثال حجري بارد، تتشبث بإطار خشبي يجمع صور أبنائها، ثلاثة شبان جمعتهم لحظة الموت عندما اشتعل الرصاص في أحياء وبيوت السويداء.
كان صباح يوم الثلاثاء 15 تموز. لم تمضِ دقائق على آخر مكالمة أجراها الابن الأكبر مع أخته مطمئناً: ” لا تخافي ما معنا سلاح، مافي سبب يعتدوا علينا” دقائق بعدها اقتحم مسلحون من الأمن العام البيت، أمطروا البيت فجأة برصاص كثيف اخترق الأثاث والأبواب والهواء، وحول المشهد إلى ما يشبه القيامة.
أمر مسلح ملثم الأم وابنتها بالذهاب للغرفة المجاورة. بعد أن سلب كل ما لديهما من ذهب وأموال وهواتف. من وراء باب الغرفة، استرقت الأم النظر لتراقب أبناءها وقد أجبرهم المسلحون على الركوع، وهم يصرخون بهم: ” كفار…اركعوا يا دروز يا خنازير” لحظات.. ثم انهمر الرصاص مجدداً. لكن هذه المرة في أجساد الأخوة الثلاثة أمام نظر أمهم، رأتهم يسقطون واحد تلو الآخر مضرجين بدمائهم صرخت بكل مافي قلب الأم من وجع أن ترى أبناءها يقتلون أمام عينيها، صرخة ضاعت وسط صيحات التكبير وضجيج السلاح.
ركعت وسط الدماء، ألصقت جسدها بأجسادهم، احتضنت وجوههم، وبقيت حتى ساعة متأخرة من الليل إلى أن تمكن الجيران وعناصر الهلال الأحمر من الوصول إليها، وقاموا بدفن الأخوة الثلاثة (قصي، عصمت، وخالد علبة) في مقبرة جماعية إلى جانب المئات من أبناء وبنات السويداء.

ما لا يُقدّر بثمن

لم تعد الأم المكلومة مجرد ضحية، بل صارت شاهدة على الجريمة، جريمة مكتملة الأركان لعملية إعدام لمدنيين عزّل بدم بارد، انتهاك صارخ للحق في الحياة.
شاهدة على جريمة بحقها هي، بحق أولادها. أي قدرٍ قاسٍ هذا ليجعل الأم تشاهد مصرع أبنائها الثلاثة معاً بلحظة واحدة، وأي مجرمون هم هؤلاء؟
كيف يمكن توثيق مأساة كهذه؟ كيف يمكن تحويل الألم والفقد إلى دليل قانوني في وجه الإفلات من العقاب.
إن هذه القصة ليست حالة معزولة، بل نموذج لمئات ومئات القصص التي عاشتها السويداء خلال بضعة أيام فقط.
لكن لابد من حماية الذاكرة، من التمسك بالحق في محاسبة الجناة، بالإصرار على التوثيق، فمن دون الذاكرة، يسهل إعادة إنتاج المأساة، ويُترك الباب مفتوحاً لانتهاكات جديدة.

ذاكرة مقاومة للنسيان


إنّ توثيق الانتهاكات ليس مجرّد عمل إداري أو قانوني، بل هو التزام أخلاقي تجاه من فقدوا حياتهم وتجاه من بقوا على قيد الألم. حين نتحدث عن الأم الثكلى، فإننا لا نروي مأساة شخصية فحسب، بل نفتح نافذة على الحقيقة التي يحاول المعتدون طمسها. الصورة التي التقطها أحد الجيران بكاميرا هاتفه. كانت الدليل الأول لكن الصورة وحدها لا تكفي. لابد من تسجيل الشهادات بأمانة وبشجاعة، حفظ التفاصيل الدقيقة، الأسماء والتواريخ والأمكنة. كل كلمة تُكتب، كل دمعة تُسجّل، تتحوّل إلى خيط في شبكة العدالة تُنسج يوماً في ملف قانوني، هذه ليست جريمة فردية أو نزاع بين أشخاص، بل جزء من سلسلة عمليات قتل ممنهجة على أساس طائفي، وقتل متعمد لمدنيين محميين بموجب اتفاقيات جنيف. تدخل ضمن تعريف جرائم الحرب، أو حتى الجرائم ضد الإنسانية كما يصنفها القانون الدولي الإنساني. التوثيق هنا ليس شكلاً من أشكال الكتابة التذكارية، بل هو مادة تُقدَّم إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو إلى آليات تحقيق أممية، أو إلى لجان الحقيقة والمصالحة مستقبلاً.

إن عملية التوثيق لا تُترك للصدفة. بل هو نتاج عمل منظم يقوم به مختصون يبدأ بجمع الشهادات من الناجين وذوي الضحايا والشهود المباشرين، بالتوثيق البصري من خلال الصور والفيديوهات مع تحديد الأسماء التواريخ والأماكن، والجهة المرتكبة للجريمة. ليتم بعدها إعداد تقارير حقوقية تتضمن تحليل الجريمة وربطها بالقوانين الدولية لتحفظ الأدلة في أرشيف آمن يضمن إمكانية استخدامها بعد سنوات، دون أن تفقد قيمتها القانونية.
هذه الآليات تعطي القصص بعداً مزدوجاً: فهي من جهة مأساة إنسانية يتوجب توثيقها وتدوينها حفظاً لكرامة وحق الضحايا وذويهم، ومن جهة أخرى ملف قانوني يضيّق الخناق على الجناة ويمنعهم من الإفلات من العقاب.
الأم الثكلى، حين حملت صورة أبنائها الثلاثة أمام الكاميرا، لم تكن تود فقط أن يستمع إليها العالم. كانت تدرك، بفطرتها، أن صورتها وصوتها سيُضافان إلى سجلٍ أوسع، سجلّ لا يمحوه الزمن. قالت وهي تبكي: “اكتبو كل شي… لا تتركوهن يسرقو موتهم مثل ما سرقوا حياتهم”. هذه الكلمات ليست مجرد نحيب، بل وصية قانونية أيضاً، لحفظ الذاكرة، والضمانة الوحيدة للعدالة.
إن تحويل دموع الأمهات إلى أدلة، وآلام الضحايا إلى ملفات، هو الطريق الذي يجعل العدالة ممكنة. قد يتأخر الحكم، وقد تُعطَّل المحاكم، لكن الأرشيف الموثَّق يبقى حياً، شاهداً ينتظر اللحظة المناسبة ليقف في وجه المجرمين.
سلبت المجزرة من الكثيرين كل شيء، حياتهم، بيوتهم، أحلامهم، لكن شهاداتهم منحت العالم ما لا يُقدَّر بثمن: الحقيقة.
الحقيقة، حين تُوثّق، تصبح أقوى من الرصاص، ولا تسمح للجناة بطمس الذاكرة

اترك تعليق