محطات مضيئة من تاريخ درعا والسويداء

محطات مضيئة من تاريخ درعا والسويداء

“من المهم أنّ نُدخل التاريخ في رؤوسنا ولكن الأهم أن نّخرج رؤوسنا منه”، لا يقصد “هيجل” بهذا التصريح أن نضع التاريخ جانباً، بل أن ننزع عنه التصورات التي تغلّفه، ونتعلّم دروسه، فالتاريخ بما هو ناتج عن السلوك البشري يحمل الخطأ فيما يحمل الصواب، يوفر لنا فرصة التعلّم والتمسك بالثوابت الجامعة، فعلاقة درعا والسويداء إذ تشكلّت ضمن الخبرة التاريخيّة لأبنائها، تمكنت أن تفوّت الفرص على أي انقسام، وذلك لوعي أطرافها بالمصير المشترك، فما يجمع السهل والجبل أكثر بكثير من المصالح الضيّقة لمستثمري الفتن وعلى اختلاف مشاربهم، بالتالي إنّ قرار عقلاء المحافظتين بوأد الفتنة أينما اشتعلت هو قرارٌ نابع من عمق تاريخهما الزاخر بمحطاته المضيئة، والتي يمكن أن نذكر بعضاً منها هنا:


الإضاءة 1
في عام 1852 فرض الباب العالي على منطقة حوران التجنيد، الأمر الذي أدى إلى صدام مسلح مع القوات العثمانية، تضامن فيها سكان المنطقة جميعاً السنّة والدروز والمسيحيين بحكم الظروف المعيشية الصعبة التي عانوا منها جميعاً، أو على حد تعبير الشعار الذي رفعوه آنذاك “تركيا تدوس الجميع” (1)
ولذلك تلاقت إرادة السكان في كلّ من السهل والجبل في أحداث إزرع 1852، وذابت الفوارق الإثنية بينهما، والتي طالما سعت سياسة الباب العالي عبر ولاتها في دمشق للاستثمار فيها، واستغلال أي إشكال أمني بين الطرفين لتفريق السكان وتأليب طرف على آخر، واستطاع كل من الجبل والسهل هزيمة الحملة في معركة إزرع، التي كانت موجهة لإجبار السكان على دفع الضرائب والسوق إلى الجندية.


الإضاءة2
كانت أحداث الثورة العربية في حوران 1918 لحظة تلاق استثنائية على المستوى الوطني بين السهل والجبل إذ لم تكن قد مرت سوى ثمان سنوات على حملة سامي باشا الفاروقي 1910 على الجبل، وما رافقها من توتر وصدام بين أهالي السهل والجبل، واستثمار لخلافات ونزاعات محلية قديمة بينهما، ضمن سياسة التفريق واللعب على التناقضات بين مكونات الجنوب السوري التي دأبت على تغذيتها حكومة الاتحاد والترقي في تركيا.
ورغم مآسي تلك الحملة وما تسببت به من خسائر كبيرة في الأرواح و الممتلكات ودمار اقتصادي باهظ، مضافاً إليه التكلفة العالية للحملات السابقة المتلاحقة على الجبل ( قتل خلال تلك الحملات ما يقارب من ثلث سكان الجبل). (2)


ورغم السنوات القليلة التي تفصل الحدثين، إلا أن أهالي حوران تعالوا عن نزاعاتهم الخاصة، ونحّوا جانباً خلافاتهم لحساب الهم الوطني الذي جمعهم، ولحساب هويتهم السورية المشتركة، والتي تم تقديمها إلى المرتبة الأولى. وهو ما فعلته أيضا عشائر البدو المقيمين في حوران، فتجد أن الجيش الذي سار بقيادة سلطان إلى معركة تحرير بصرى كان مؤلفاً من جميع المكونات في منطقة حوران، حيث حسم شيوخ السهل والجبل ومشايخ عشائر البدو خيارهم بالإنضمام إلى الثورة العربية، و شاركوا تحت قيادة سلطان الأطرش في مهاجمة القلعة العثمانية في بصرى، وأجبروا الحامية على الإستسلام والتي التحقت مع ثلاثمئة أسير تم تحريرهم بالجيش العربي في الشيخ مسكين(3)، وفي 1تشرين أول 1918 دخلت القوات المنتصرة دمشق، ورفع العلم العربي فوق مبنى السراي الحكومي(4).
كما تجدر الإشارة إلى دور حوران الكبير والهام خلال المجاعة التي حدثت بين عامي 1915/1918، حيث فتحت مخازن القمح أمام النازحين والفارين من الجندية إلى المنطقة. فقد استقبل الجبل عشرة آلاف من أصل خمسة وسبعين ألف نازح ومطلوب في عموم سورية بحسب البيانات العربية الإنكليزية الصادرة آنذاك.(5)


الإضاءة 3
لم تكن سياسة الفرنسيين تختلف عن سابقتها التركية في المحاولات المستمرة لزرع التفرقة بين السهل والجبل. وعلى الرغم من الإغراءات التي قدمها الفرنسيون لأهالي حوران، إلا أنهم فشلوا في جعلهم يوجهون بنادقهم إلى الجبل. فمع انطلاقة الثورة السورية الكبرى 1925 كلف الجنرال “سراي” المندوب السامي في سوريا وكيله شوفلير مع رئيس الحكومة صبحي بركات بدعوة وجهاء وزعماء حوران واجتمع بهم في دمشق، حيث نقل إليهم قرارات المندوب السامي والتي تتضمن إعفاء حوران من دفع الضريبة. وأضاف شوفلير “النظر لاحتياجاتكم لدفع المتمردين عن أراضيكم، مع إجازة حمل السلاح، ونحن نقدم لكم ألفي بندقية لتحاربوا العدو المغتصب لبلادكم”، ويقصد ثوار الجبل، “وستعلن الحكومة المنتدبة إستقلال حوران.”


وما إن أنهى شوفلير كلامه حتى ثار في وجهه الشيخ إسماعيل باشا الحريري قائلاً:
“أما بخصوص المنحة الأولى فنحن نشكر السلطة الفرنسية، وأما بخصوص حمل السلاح لمحاربة “الدروز وثوار الجبل” فنحن قررنا عدم محاربتهم لأن لهم حق الجوار علينا والوطنية أيضاً، أما إستقلال حوران فلا أوافق عليه لأن حوران هي جزء من سورية الكلية”. وكانت صفعة مؤلمة في وجه شوفلير أمام الجميع.(6)
وقد كان الحريري قد رفض سابقاً طلب الجنرال غورو عام 1920 بإمداد القوات الفرنسية بالرجال، الأمر الذي تسبب بقصف الطائرات الفرنسية لبيته، فشكل الحريري مجموعة صغيرة من المقاتلين ولجأ إلى الأردن ليشن حملات متلاحقة من هناك ضد القوات الفرنسية لمدة عامين، عاد بعدها إلى حوران إثر إصدار عفو عنه من الفرنسيين(7).


وقد أورد سلطان الأطرش في مذكراته حول مساندة الشيخ إسماعيل الحريري في معركة المزرعة في آب 1925قائلاً: “وفد علينا ونحن في مخيم المزرعة (إسماعيل باشا بن إبراهيم الحريري) شيخ مشايخ حوران على رأس قوة من حوران مؤلفة من مئة فارس، وأعلن استعداده للإنضمام للثورة بعد أن رفض الإذعان ل “شوفلير” الذي كان يسعى إلى تسليح إخوتنا في حوران ويحرضهم على محاربتنا ” (8)
في النهاية
تتعيّن أهميّة هذه الإضاءات في كشفها النقاب عمّا كان موجوداً بالفعل، ليس بغرض الإلتفاف على الواقع، أو النكوص إلى ماض مضى، فالحاضر يثبت أيضاً أنّه امتداد لمرجعيات العقل في الإختيار، فخيار السهل والجبل في المواجهة المشتركة للتحديات التي تطرأ على أرضهما، ينطوي على تفكير منطقي، في رؤيتهما العميقة لمصيرهما المشترك، وهذا ما تثبته الأحداث المتعاقبة عليهما، فخيار الإنتماء الوطني تاريخياً، هو ما سيكون الممهد لوطنيّة عميقة ينعم الجميع فيها بالحرية والعدالة والمساواة.
#سهل_وجبل
________________________
المراجع:
1- بريدجيت شبلر،انتفاضات جبل الدروز- حوران من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال
2- المصدر السابق
3-المصدر السابق
4- حنا أبي راشد، جبل الدروز
5-سعيد الصغيّر،بنو معروف في التاريخ
6- مجلة المعرفة عدد 20ابريل 2009
7-لانكا بوكوفا، المجابهة الفرنسية السورية في عهد الانتداب 1925-1927
8- مذكرات سلطان الأطرش،

اترك تعليق