صدى الجنوب
يقف سكان السويداء لأول مرة طوال تاريخ سكناهم الجبل منذ القرن السادس عشر؛ حائرين ومشتتين، و من دون قادة حقيقيين بعد أن بات يتحكم بمصيرهم قادة فصائل عسكرية مسلحة، أو قادة عصابات تابعين بشكل أو بآخر لقوى كبرى؛ على الرغم من استمرار وجود الزعامات التقليدية المعتادة.
قد تبدو الصورة مبهمة لأول لحظة، لكن ما جرى ويجري طوال سنوات المحنة السورية؛ لا يدع مجالاً للشك بأن من يتحكم بمصير الجبل ينقسمون إلى عدة أقسام حسب الدور الذي يلعبونه على الأرض، والقوة العسكرية التي يمتلكها كل طرف؛ لدرجة أن المتابع لهذا الملف يصاب بالدوار والحيرة، ويلاحقه سؤال واحد: على ماذا يتحارب كل هؤلاء؟.
فعلى الرغم من الحياد الايجابي الذي اتسمت به المحافظة عموما منذ بداية الأحداث في العام 2011، ومحاولة تجنب النار المستعرة من حولها، وعدم انخراط أبنائها في أتون الحرب وعدم التحاقهم بالخدمة الإلزامية، إلا أن الانقسام الداخلي اتضحت معالمه مبكراً بعد خروج مظاهرات مناوئة للسلطة، والتصدي لها بقوة من قبل الأجهزة الأمنية والمؤيدين لها.
في أواخر العام 2012 تم تأسيس مجموعات عسكرية أطلق عليها “الدفاع الوطني” الموالية والمساندة للقوات الحكومية، وهي فكرة ودعم وتمويل “إيران” التي تدخلت منذ بداية 2012 بشكل واضح في الحرب، حيث تأسست هذه الفصائل في عدد من المحافظات؛ ومنها “السويداء”، وبلغ عدد المنتسبين إليها خمسة آلاف مقاتل من أصل مائة ألف على مستوى سوريا. ولم يقف حزب البعث مكتوف الأيدي في هذه الفترة، حيث شكل هو الآخر فصائل مسلحة أطلق عليها اسم كتائب “البعث”، كما كان “القومي السوري” يشكل فصائله “الزوبعة” لنفس الغاية، وكانت هذه الفصائل “الدفاع الوطني وكتائب البعث، والزوبعة” قوة مسلحة كبيرة لها انتشارها الواضح، وتأثيرها العسكري المتنامي طوال سنوات الصراع.
2013 عام نشوء العصابات بالمسمى السلبي للكلمة
لا يختلف اثنان في السويداء على أن الأجهزة الأمنية كانت هي المسيطرة على الحياة العامة في المحافظة، وتتحكم بكل التفاصيل اليومية، وزاد نشاطها بعد العام 2011 بشكل كبير وواسع، لكن بروز اسم الأمن العسكري طغى على باقي الفروع الأخرى، ومعه ظهرت عصابات الخطف، ولأول مرة بالتاريخ الحديث للجبل تنقلب هذه التسمية من البطولة المطلقة لثوار الجبل والعصابات التي كانت تتشكل للدفاع عن الأرض ضد العثمانيين والفرنسيين، إلى عصابات مجرمة هدفها الفتنة والتفرقة والسلب وتجارة المخدرات، وتحويل السويداء إلى غابة متناحرة.
وفي هذه السنة بدأت ظاهرة السلاح العشوائي وبدأ سكان الجبل يذهبون باتجاه التسليح بشكل هستيري، وسجلت أول عملية خطف كان ضحيتها شاب من درعا، وأصبح الخاطف بعد فترة من الزمن قائد فصيل مسلح، وبدأ مصطلح الفدية متداولاً. كما شهدت هذه السنة وصول عشرات الآلاف من العائلات النازحة والمهجّرة، فيما ظهرت بشكل أكثر وضوحاً منظمات المجتمع المدني كطرف ثالث غير مسيس ولد في حلبة الصراع المحلي.
وشهد العام 2014 ولادة حركة “رجال الكرامة” على يد مؤسسها الشيخ “وحيد البلعوس”، وخاضت معركة “داما” مع القوات الحكومية ضد “جبهة النصرة”، حيث انتهت بانتصار الحركة مع خلاف قطعي مع القوات الحكومية، يقول أحد أعضاء الجناح الإعلامي في الحركة لصدى الجنوب السوري: “نشأت حركة رجال الكرامة بأهداف محددة، وهي حماية الأرض والعرض”، حيث كانت الجماعات المتشددة تُحيط بالمحافظة من كل الاتجاهات. إضافة لوجود قبضة أمنية مشددة على المحافظة، وهذا ما حذا بالحركة لاتخاذ مواقف متقدمة؛ حيث منعت التجنيد بالإكراه، والاعتقال التعسفي الأمني والسياسي.
وأضاف: “أن مؤسسي الحركة وعلى رأسهم الشيخ “البلعوس” أقروا نظام شورى في اتخاذ القرارات عبر مجلس قيادي، مُتخذين خيار الحياد الايجابي بعدم الخوض في دماء السوريين أياً كانوا، وعدم الاعتداء على أي طرف، ورد الاعتداء على امتداد أراضي جبل العرب من قبل أي طرف. مشيراً بذات الوقت أن الحركة مُستقلة لا تتبع تنظيمياً لأي جهة دولية أو سياسية أو إقليمية، بل تعتمد على قرار داخلي أهلي قيادي”.
ان تأسيس الحركة وانخراطها في معارك ضد داعش والنصرة؛ خلق لها أعداء كثر، وباتت المنافس والند بعد أن تحولت إلى قوة عسكرية منظمة وكبيرة، فيما راحت العصابات تحقق انتصارات متتالية في خرق النسيج الاجتماعي بعد أن تمتعت بحصانة عالية، وبدأت ساحات السويداء مسرحاً لكل أنواع الجرائم، ومنها المخدرات، حيث باتت المحافظة الممر الأساسي لتصدير المخدرات نحو الأردن.
واتسم العام 2015 بالأحداث الخطيرة على مستوى سوريا، عامة، والسويداء خاصة، حيث كان عنوانه الأولي في السويداء “عام الهجرة”، وشهد أول عملية اغتيال واضحة المعالم والأركان استهدف موكب الشيخ وحيد البلعوس ورفاقه، تلاه تفجير أمام المشفى الوطني، راح ضحيته ما يقارب الخمسين ضحية، وأثبتت القبضة الأمنية أنها قادرة على التحرك بأي وقت، وفرض سيطرتها رغم كل الادعاءات عن عدم علاقتها بالفوضى والقتل. وختم العام أشهره الأخيرة بدخول “روسيا” الحرب كشريك رئيسي للقوات الحكومية، فتغير ميزان القوى، وباتت البلاد تحت حكم مجموعة من القوى الدولية التي أثرت بشكل مباشر على الجنوب السوري.
____
أعوام الفصائل والبيارق والعصابات
قد يكون هذا العنوان مناسباً لوضع المحافظة عموماً التي انخرط عدد كبير من أبنائها في تشكيل فصائل مسلحة، وعدد قليل انخرط وغاص في لعبة العصابات التي تحولت إلى قوة خفية تلعب بمصير الناس وأرزاقهم، وشكلت تحالفاً مع عصابات درعا الجارة التي كانت هي الأخرى تعاني من الفوضى والسلاح.
إذاً ما هو عمل كل هذه الفصائل والبيارق؟
والإجابة الأكثر واقعية هو الخوف من المجهول الذي برز مع بدء اعتداءات جبهة النصرة على الأطراف الغربية للجبل، وتعمقت تلك المخاوف بعد هجوم داعش في 25 تموز 2018، حيث توحد السلاح والفصائل لصد الهجوم الوحشي، وتلقت داعش هزيمة كبيرة لم تعهدها من قبل على الرغم من أن أبناء السويداء كانوا وحيدين في الدفاع. لكن تلك الفصائل والبيارق لم تستطع تخليص المحافظة من العصابات، بل على العكس من ذلك؛ فقد انخرطت فصائل عديدة في تسهيل وتهريب المخدرات ومرافقة الحمولات نحو الحدود الأردنية، وساهمت بالقضاء على أحد الفصائل في منطقة صلخد. وتحول الريف الجنوبي بالكامل، والريف الجنوبي الشرقي لخط مفتوح نحو الأردن، وكان واضحاً تبعية تلك الفصائل للخارج.
بعد هجمات داعش؛ انخرطت روسيا أكثر فأكثر في الجنوب، وبات الصراع على أشده بينها وبين إيران على تثبيت وجودهما مقابل محاولة السلطات السورية إرضاء كل الأطراف عن طريق فرع الأمن العسكري وفرع أمن الدولة، وسط غياب تام للزعامات التقليدية ومشايخ الدين الذين كانوا دائماً ينفذون رغبات الجميع رغم الامتعاض من بعض المواقف، وهو ما جعل الانقسام يتعمق أكثر، حيث لكل زعيم عدد من الأتباع، وهو بدوره تابع لجهة أعلى، في عنوان عريض للفوضى. مع بداية تدهور اقتصادي كبير وانهيار لقيمة العملة ما نتج عنه ازدياد الفقر، وغياب الأمان، ما جعل الآلاف من سكان يحزمون حقائبهم للهجرة، رغم المساعدات القادمة من المغتربين والجولان وفلسطين المحتلة.
وشهدت سنة2021 ظهور طرف جديد على الساحة هو حزب اللواء، وذراعه العسكري قوة مكافحة الإرهاب، وقد أخذت ضجة إعلامية غير مسبوقة، لكن النتائج على الأرض كانت مخيبة للآمال، وانخرطت في صراعات محلية مع “الدفاع الوطني”، ومع العصابات دون أي أثر على الأرض سوى الرواتب المالية التي وزعت على المنتسبين له. واتضح قوة الأفرع الأمنية في إدارة اللعبة حتى اللحظة دون أن يبرز أي حل للفوضى والانقسام سوى زيادة حدته.
يقول الناشط السياسي “إبراهيم العاقل”: في السويداء فوضى تديرها أجهزة الأمن.
طوال الشهور الماضية وروسيا تراقب عن كثب ما يجري على ساحة المحافظة دون أن تتدخل، لكنها بنفس الوقت كانت تعد لخطة تجمع من خلالها شبان السويداء تحت مسمى الفيلق، وبحسب ما أكده عدد من المستقطبين والسماسرة فإن القوائم جاهزة لتشكيل فيلق مؤلف من ثلاث كتائب كل كتيبة تبلغ ٣٠٠ مقاتل، مجال عملهم في القطاع الجنوبي حسب التسمية الروسية. وقد أكد هذه المعلومات ناشط إعلامي في درعا بعد أن اتخذت روسيا قراراً بحل اللواء الثامن، وهو ما يشي بأن هذه الكتائب سوف تحل مكانه، وتشكل نواة عسكرية للسيطرة على الجنوب بالتنسيق بين السلطات السورية وروسيا.
وفي العموم هي سلطة تواطؤ عام وإدارة أزمات وفقاً لمصالح متبادلة بين القوى الثلاث: سلطة دمشق وروسيا وإيران والشعب هو الخاسر.
مطلبنا المزمن لايزال في دولة مدنية ديمقراطية من دون تمييز حزبي أو طائفي أو عرقي، وعلى أساس الدين لله والوطن للجميع. وبهذا فقط ننجو من الخراب والتشظي