نبطية الشعر الجاهلي

                           

أيمن مراد – كاتب من سوريا

يستند هذا المقال على قناعة كاتبه بأن لهجة قريش ليست الفصحى التي نعرفها الآن، وقد ناقشنا هذا الرأي وذكرنا بعض مصادره في الدراسة التي تحمل عنوان: ( اللغة العربية رؤية معاصرة لأنظمتها اللغوية) والمنشورة بتاريخ 2-3-2023 في مركز أبحاث ودراسات مينا https://mena-studies.org/ar/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9%d8%9b-%d8%b1%d8%a4%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%b9%d8%a7%d8%b5%d8%b1%d8%a9-%d9%84%d8%a3%d9%86%d8%b8%d9%85%d8%aa%d9%87%d8%a7-%d8%a7/

ويهمنا هنا أن نذكر بعض النقاط التي سنرتكز عليها فيما سنقول:

اتفق رؤساء مدرستي البصرة والكوفة على عدم جواز الاحتجاج اللغوي بأحاديث الرسول(ص)، وعللت الأجيال اللاحقة هذا الكلام بأن ناقلي أحاديث الرسول الكريم معظمهم من العجم ووقعوا في أخطاء لغوية أثناء حفظهم للأحاديث. الفراهيدي المتوفى سنة 171 ه وشيخه أبو عمرو ابن العلاء وشيخ أبي عمر الحسن البصري، كل هؤلاء أقروا بعدم جواز الاحتجاج اللغوي بأحاديث الرسول, الحسن البصري من التابعين أي ممن أخذ عن الصحابة، أي أنه سمع الأحاديث ممن سمعها من الرسول مباشرة، وهو عربي الأصل واللسان حسب ما تذكر مصادر كثيرة، ولا مبرر هنا للحجة الواهية أن رواة الأحاديث ليسوا عربًا، وتفسير الأمر حسب رأينا أن الفصحى التي اكتملت قواعدها على يدي الفراهيدي ليست هي نفسها لهجة الرسول الكريم وبالتالي ليست هي لهجة قريش والحجاز، وهذا ما ذهب إليه كثر مثل إبراهيم الجبين في دراسته المعنونة بلهجة محمد.

ونحن نرى أن لهجة قريش ومعها معظم عرب الجزيرة والعراق وبادية الشام كانت لهجة العرب الأنباط، وهي المستمرة إلى الآن في الخليج وبادية الشام والعراق باختلافات قليلة، وبالتالي فالعرب لم يعرفوا الفصحى التي نعرفها إلا بعد الفراهيدي الذي وضع قواعد النحو والتجويد ومعه سادت وتسيدت طريقة فصيحة لقراءة القرآن وانتشرت معها لهجة وليدة أصبحت لغة رسمية.

أبو خليل أحمد الفراهيدي

وهنا نسأل: إذا كان الأمر كذلك، ونحن نراه كذلك، فبأية لهجة كان العرب ينظمون الشعر قبل الفراهيدي؟

وهل الشعر الجاهلي الذي وصلنا هو فعلًا شعرجاهلي قيل قبل الإسلام؟

هذا سؤال سأله طه حسين وأجاب عليه إجابة متسرعة نافيًا معظم أشعار الجاهليين وقائلًا أنه شعر قيل في العصر العباسي ونسب للجاهليين. 

وسبب ذهاب طه حسين هذا المذهب برأينا هو جهله وعدم معرفته بالشعر النبطي، فنحن نرى لو أن طه حسين كان على دراية بالشعر النبطي واللهجة النبطية لأدرك أن معظم الأشعار التي وصلتنا صحيحة لكن تم تفصيحها، أو لنقل تم تغيير لهجتها من اللهجة النبطية إلى الفصحى.

نحن نتبنى الرأي التالي: كل شعر جاهلي يقرأ بطريقة ولهجة الشعر النبطي دون أن يختل وزنه هو شعر صحيح النسب لشاعره وقائله، وكل شعر جاهلي بل وإسلامي (صدر الإسلام) يختل وزنه إذا قرأ بالطريقة النبطية فهو شعر منحول أو معدل أو طرأ عليه تغييرات.

يمكن لنا أن نقرأ المعلقات باللهجة النبطية، وحينها لن تكون حركات الأحرف وأواخر الكلمات كما هي في الفصحى، كما أن نطق بعض الأحرف سيختلف، لكن مع ذلك ستحافظ القصيدة على وزنها، وإذا أخذنا أمثلة تطبيقية وأخضعناها للتجربة سنجد في معلقة امرئ القيس أنها تبدأ ( سأكتب كما نلفظ باللهجة النبطية ولن ألتزم بقواعد الكتابة كي أوضح طريقة النطق):

كَفا نبكي من ذكرى حبيبن ومنزلْ         بسكط اللوا بين الدخولْ فحوملْ

إذا قرأنا هذا البيت باللهجة النبطية بتسكين اللام أو كسرها فلا يختل الوزن، وأنا أرجح أن امرأ القيس قالها بتسكين اللام، لكن حتى وإن كانت اللام مكسورة فهي صحيحة بالحالتين.

فتوضحْ فالمكَرات لم يعفْ رسمها      لما انْسجتها من جنوبْ وشميلْ

ترى بعر اللّارام في عرصاتها       وكيعانها كنّه حبوب فلفلْ

وإذا تابعنا المعلقة سنجد أن معظم أبياتها لا تصادفنا فيها أية مشاكل في الوزن إلى أن نصل إلى البيت المشهور: 

كأن أبان في تفانين ودكَه              كبيرْ ناسْ في بجادْ مزملْ

وهذا ما يفسر الإقواء في هذا البيت حيث لم يستطع النحاة تعديل البيت بما يناسب قواعدهم المستحدثة، فكلمة مزمل حسب الرواية الفصيحة يجب أن تكون مرفوعة، والرفع يخل بحرف الروي المكسور، وهذا هو الإقواء.

نحن نرى أن الشعر الجاهلي سقط منه الكثير من الأشعار، على عكس ما يرى طه حسين، فلم تصلنا تلك الأشعار التي لم توافق علم النحو المستحدث، فما وصلنا هو ما بقي سليما بعد تحويله للفصحى أما ذاك الذي اختل أو لم يستطع النحاة تحويله للفصحى فقد أهملوه، ومثال ذلك أشعار عبيد بن الأبرص التي اضطرب وزنها عند تحويلها إلى فصيحة.

أما أشعار الزير سالم وكليب فكانت الرواية الشعبية أقوى من التوثيق المكتوب فوصلتنا بلهجتها النبطية، وأنا من الذين يعتقدون أن أشعار الزير النبطية هي أصدق نسبًا له من أشعاره الفصيحة، وكلاهما صادق النسب بعد أن نقرأ فصيحه باللهجة النبطية.

لقد ارتسخ بذهن الأجيال أن هذه القصائد قيلت بالفصحى وحسب قواعد النحو التي نعرفها، فكيف لشاعر لم يتلق تعليمًا في اللغة، أن تكون قصائده فصيحة يحتج بها، وأحاديث الرسول الكريم تهمل بسبب ركاكتها اللغوية ولا يحتج بها؟ وكيف يمكن لشاعر لم يسبق له أن لفظ الهمزة أو حرف القاف أن يضبط قصيدة بالفصحى مليئة بالهمزة والقاف والتاء المربوطة وغير هذا من الأحرف المختلف في لفظها؟ 

إنني هنا أدعو كل المختصين من حملة درجة الدكتوراة والماجستير، وهؤلاء الذين يسعون لنيل هاتين الدرجتين، وكل المهتمين، أدعوهم لإعادة النظر في الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام، بعد أن يطلعوا ويدرسوا الشعر النبطي، بأوزانه ولهجاته، وطرق نظمه، وتطوراته عبر التاريخ. 

إن جيل النهضة الذي رسخ عندنا نمط العربي في الجاهلية والإسلام، كان جيلًا محمومًا بالقومية العربية، بالإضافة إلى جهله بالشعر النبطي، فأوائل دارسي الأدب الجاهلي كانوا إما من بلاد الشام ( من لبنان حصرًا) أو مصريين وفي الحالين كانوا جاهلين بالشعر النبطي، وبعد أن ترسخت هذه النظرة النمطية للعربي القديم أصبح صعبًا جدًا تغييرها والحديث عن أنماط مختلفة للعربي، وأظن أن هذا ما سيلقاه مقالي هذا، من رفض وتشكيك بالحد الأدنى، فهو مقال يشكك في النمط المترسخ في أذهاننا عن العربي القديم. 

اترك تعليق