هرمونات الأمومة ليست كافية

    مع شكسبير                                                                                

إن الذهاب مع شكسبير في تذوّق وصف الأمّ بأنها” شمعة مقدّسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقّة. يشبه إلى حدّ بعيد وضع حلوى في الفم، وتركها تذوب ببطءٍ لذيذ. لن يفكّر عاقل أو عاقلة في هذه اللحظة: ممّا صنعت الحلوى؟ أو من صنعها؟  الانجراف مع عذوبة هذه الصورة، يؤكد واقعياً يقينياتنا عن منزلة الأمّ وصورتها الراسخة. الأم المثال، الأم المقدّسة، لكن النظر إلى مملكة القداسة بعين محايدة، يؤكد أنها تقع قبل السؤال، أو في المكان الذي لم يولد المنطق به بعد. بمعنى أن أسئلة من نوع: هل الأم سعيدة فعلاً بتضحياتها؟ هل هي سعيدة بالأدوار الجندرية المناطة بها؟ ربما هذه الأسئلة وما شاكلها تهدم كل الجمال الذي قدمه شكسبير في وصفه الرائع

عطفاً على نظرية الاستلاب العقائدي

 في كتابه “التخلف الاجتماعي”، يرى “مصطفى حجازي” أنّ أسطورة (الأم المتفانية)، ليست سوى نتاج التصورات البطريركية التي تضمن السيطرة على المرأة واستتباعها. وجعلها تعتقد تاريخياً أن تحقيق ذاتها، يمرّ حصراً عبر الأدوار المناطة بها. المرأة في الكثير من مجتمعاتنا تُعد عبئاً أسريّاً ما لم تصبح أمّاً. فعملية التشريط المُنظَّمة والمستمرة التي تحيط بكيان المرأة من كل جانب، تُقّسم الأدوار، وتُحدّد الوظائف، فما يعطى لكيان المرأة من دلالات سالبة أو موجبة، يجعلها تعتز بالإنجاب وبإنجازات أطفالها، بدل أنّ تعتز بذاتها وبإنجازاتها. ومن حُرمت امتلاك كيانها وذاتها، ستأخذ علاقتها مع أطفالها شكلاً تعويضياً تملكيّاً.

الأمومة في عيادة الدراسات الحديثة

  تبيّن الدراسات الحديثة  أنّ بعض الأمهات تضعف عندهن غريزة الأمومة، ولديهنّ مشاعر مختلفة تجاه فكرة الإنجاب والأمومة. وتشير الاختصاصية في العلاج النفسي العائلي “‘إستير بو أنطون. إلى  أنّ “شعور الأمومة عند البشر، ينتج عن عملية نفسية معقدة، تتأثر بعوامل مختلفة، /نفسية /اجتماعية /ثقافية /تربوية/. وبالرغم من أنّ الهرمونات الأنثوية تشجع الأمّ على الاهتمام بطفلها، إلّا أنها غير كافية لتحسين العلاقة بينهما”، بينما إذا كانت المرأة تتمتع بالوعي وحرية الإرادة، سينتج شعور الأمومة عن استعدادها النفسي والعاطفي والذهني، وسينبع من رغبتها الشخصية، بقرارها إعطاء الحياة لمولود جديد. وفي هذه الحال تكون الأمومة نابعة من إرادة واعية، وليس من كونها غريزة لاستمرار النوع. 

اللاوعي بئر المأساة

 المرأة التي تعاني مشاعر النقص، وتتسم بالخوف وعدم الثقة بـأمومتها (وهو نموذج شائع للمرأة في مجتمعاتنا)، سترعبها حاجات الطفل الملحاحة وحيويته العارمة. لقد تمّ تنشيط قدرها الذاتي المبكّر بشكل حتمي من خلال وجود هذا الطفل. الأمر الذي يجعلها تنقل عدم استقرارها الناجم عن أزمتها المتذبذبة إلى طفلها، ستنقل إليه رفضها وصدّها بشكل لا شعوري، طالما مازالت تتهرب من حقيقة أنها أصبحت أماً، ولم تتمكن من تمثلها انفعالياً، بعكس كلّ القناعات والرغبات الشعورية المتمثلة في رغبتها أنها ستقوم بأمومتها اتجاه طفلها بشكل مثالي، هنا سوف يتحول إنكار العدوانية تجاه الطفل إلى مأساة.

نسخة حديثة لصورة قديمة 

“الطفل غير المرغوب به والمرفوض، وغير المقبول في حيويته وفردانيته لا شعورياً من قبل الأم، يدرك الرفض وانعدام قيمته منذ البداية. والمأساة تتمثل في أنّ مثل هذا الرفض يصل إلى الطفل بصورة لا شعورية كلياً، فينشأ في الطفل ميل مستقبلي إلى المرأة الضعيفة والخاضعة، لأنها المجال لتحقق قوته وهيمنته، ومن الطفلة ستنشأ المرأة التي تنكر قيمتها الذاتيّة، كي يتم تحملها في الحياة الزوجيّة”، وكوالدين مستقبليين سيعيقان تفتح طفلهما الانفعالي، ونشاطاته الحيويّة، ويصبح الطفل فقط موضوعاً للتربية، عليه أن يكون مجبراً على النظام والأدب والسيطرة على مشاعره. ما سيعد ــ في المرحلة التي يصبح فيها هؤلاء الأطفال نساءً ورجالاً ــ انتاج نسخة اجتماعيّة جديدة من العلاقات السائدة: الرجل المهيمن والمرأة الخاضعة.

نحن ندفع الثمن

  الأم المقدّسة: هي ضحية تصورات مثالية، تغذّيها إيديولوجيا خفية تسجن المرأة داخلها، وتوهمها أنّ هذه السجون هي حريتها. فالشمعة التي تضيء هي نفسها التي تذوب وتتلاشى، والسؤال: ما هو النتاج التربوي لهذه الأم ؟ كيف ستنشئ طفلها على الحب إذا قدّمته على ذاتها؟ كيف ستربّي طفلاً طموحاً مَن تخلّت هي نفسها عن طموحاتها؟ كيف ستشيع في داخله السعادة، وقد أدارت ظهرها لسعادتها؟ (تعبت سهرت ربّيت شقيت ضحّيت حرمت حالي)، هذه العبارات لا تولد الامتنان، بقدر ما تولد لدى الطفل شعوراً بالذنب وتبخيساً للذات، سيرافقه شعور دائم بأنه سبب الشقاء والمعاناة وعبئاً تم قذفه إلى الحياة.

عودة إلى المقدمة

 “إذا رفت فراشة جناحيها في الصين قد يحدث إعصار في البرازيل”. لا تنتمي في الحقيقة هذه الجملة إلى ميتافيزيقيا ما أو إلى مجازٍ لغويّ، إنها تعبّر بدقة عن قاعدة علميّة لواحد من أهم أفرع الفيزياء الحديثة: فيزياء الكم. وإذا ما استثمرنا قراءتها في المنحى السيكولوجي، بمعنى أن نتيجة كارثية على المستوى الاجتماعي. قد تختبئ وراء تراكم أسباب صغيرة وصغيرة جداً. بالتأكيد فالنتائج لا تولد من الفراغ، لكنها تولد من عدم قدرتنا على ملاحظة أسبابها. ومع هذا فعدم القدرة على الملاحظة لن تجنبنا النتائج، ولن تعفينا من مسؤولية وقوعها، كأن يغرينا الضوء المنبثق من ” شمعة مقدّسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقّة”. ولا نشعر باحتراقها.     

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليق