العدالة الانتقاليّة مطلب حالّ، ومبدأ رئيس، لتعافي سورية والسّوريين

     المحامي: أيمن شيب الدين

                                                                      

إنّ هول ما حلّ بالسّوريين من إجرام وانتهاكات لحقوق الإنسان، يجب أن ينتهي ويُعالج، وقبل الانطلاق للمستقبل لابدّ من تصفية تركة الماضي، بما حملته من خراب حقوقي وسياسي لحق بسورية الدّولة وبالسّوريين الإنسان، فعهد الإجرام والانتهاكات والإفلات من العقاب يجب أن ينتهي، ولن ينتهي قبل أن يُعالج على أساس العدالة التي تُعلي من شأن حقوق الإنسان، باعتبارها يجب أن تكون ركيزة سورية الجديدة. 

لذا سأحاول أن أتكلّم عن العدالة الانتقاليّة وأهمّيتها، كما تعنينا نحن كسوريين، بما لحق بنا من إجرام، وليس كما هي جامدة في برنامج التشات جي بي تي، فمن الضّروري مُحاكاتها مع الواقع السوري ومآسيه الذي خبرناه اليوم كما خبرناه بالأمس. سأتكلّم بالموضوع انطلاقاً من الضّمير الجمعي للسوريين، وبعيداً عن جمود اللغة القانونيّة، وأنتهي بما هو مطلوب وضروري لسورية والسوريين في هذا الشأن.

النظام الحاكم السّابق، برئيسه وحزبه ومُنظّماته ونقاباته وجيشه ومُخابراته وإرهابه وفساده، هو بجميع تلك الصّفات، ارتكب خلال أربعة عشر عاماً في زمن ثورة الحريّة والكرامة مئات آلاف الانتهاكات من المجازر وجرائم القتل، والاعتقال، والإخفاء القسري، والتّعذيب، والاعتداء الجنسي، والتّهجير، والتّدمير، ومُصادرة الأملاك، ارتكبها بحقّ الشعب السّوري الذي ثار عليه لإسقاط الاستبداد وللتّغيير السياسي والديمقراطي، ولاسترداد الحريّة والكرامة.

هذه الجرائم ارتكبها النظام السوري البائد بوصفه شخصيّة اعتبارية: رئيس وجيش ومخابرات وحزب وشبيحة ونقابات وجمعيات …، وعبر أفراد تلك المُؤسّسات، حيثُ سخّر الدولة بمؤسّساتها وأفرادها ومُقدّراتها لشنّ الحرب على السوريين لقمع ثورته، وبمشاركة حُلفائه آنذاك: إيران وروسيا والميليشيات الطائفيّة الإرهابية من العراق وسورية.

كل تلك الجرائم ارتُكبت وفق سرديّة ــ كما يطيب للمجتمع المدني تسميتها بالسّردية ــ أن ثمّة مؤامرة على سورية، وكل من ثار على النظام هو بالضرورة خائنٌ، يجب قتله واعتقاله وتهجيره، إضافة إلى إنكاره الفعل، إنكاره أنّهُ يقتل أو يعتقل أو يضرب براميل أو كيماوي أو مجازر، فجميع تلك الجرائم ارتكبتها ــ وفق إنكاره ــ ما كان يُسميها (العصابات الارهابيّة المُسلّحة!) فهذه (السّرديّة) يجب أن تُصحّح.

معركةٌ طاحنة خلال أربعة عشر عام بين النظام والثّوار، ليس بالمظاهرات والبنادق فقط، بل هي معركة الحقيقة بمواجهة الكذب والإنكار والشيطنة وتزوير التاريخ. معركة الكذب والشيطنة والإنكار والاتهام بالعمالة والإرهاب، لم يقم بها النظام الرّسمي فقط، بل أيضاً، أنصاره من السوريين الفاسدين المُنافقين المُنتفعين منه آنذاك.
ذاكرتنا حيال الأربعة عشر عام التي مرّت في ظل إجرام وبغض نظام الأسد، مليئة بالقهر والأسى والظلم والخيبة واليأس والغضب والخوف والخذلان، تلك المشاعر وتلك السنوات لها ثمن! هي تاريخ! هي ذاكرة تصرخ في رؤوسنا، وكم صرخ السوريون دفاعاً عن الحقيقة! هذا التّاريخ الذي مرّ، المليء بالدماء والعذابات والقهر والظلم والتّشرد والتّخوين والشّيطنة، يجب أن يُصحّح ويُكتب من جديد، يجب أن يعتدل، أن يعتدل بالعدل، لكي تستقيم نفوسنا، إذ لن تستقيم سورية من دون الشعور بالعدل والعدالة.
مخطئٌ من يظنّ أنه سيحصل استقرار سياسيّ ومُجتمعي في سورية بلا عدالة انتقاليّة، فعشرات آلاف المُجرمين لا زالوا يعيشون بيننا! ولا يخفى على أحد مخاطر ذلك، ليس فقط على حياة السوريين كأفراد، وإنّما أيضاً على حياة الشعب السوري في الدولة السوريّة، إذ أنّ أكثر عامل يُهدّد استقرار سورية والسوريين وبناء الدولة الجديدة هُم هؤلاء المُجرمون، حيث أنّ مصالحهم في الإفلات من العقاب، تقتضي عدم الاستقرار أساساً.

مخطئٌ من يظنّ أن مُطالبتنا بالعدالة الانتقاليّة مقرون بسلطة سياسية، إن كانت سلطة الأمر الواقع اليوم، أو أي سلطة ستأتي بعدها، بل هي (العدالة الانتقاليّة) مطلبٌ ومبدأ، يجب أن يُحمل ويُدافع عنه في أي وقت وأي زمن، هي حقّ للشعب السوري يحتوي جميع حقوقه في الحياة والحرية والكرامة والعدالة، التي انتُهكت طيلة أربعة عشر عام، ويجب أن تُستردّ له بقيمة ومسؤولية واعتراف وتكريم

 فالعدالة الانتقاليّة المنشودة التي نحتاجها في سورية، التي تُرضي الأخلاق والإنسان والانسانيّة، والتي يُبنى عليها لبناء دولة مُتعافية مُتصالحة مُتماسكة، هي التي يجب أن تتمّ عبر “هيئة عليا مُستقلّة” تُنشأ بقانون مُحكم خاصّ بها، يُحدّد لها مهامها وصلاحيّاتها واستقلالها التّام، بحيث ما مِن سلطة تتدخّل بها أو تفرض وصائيّة أو رقابة عليها، تلك الهيئة ستقود مهمّة ومسيرة العدالة الانتقاليّة والتي قد تستمر لسنوات وربما لعقود، حتى انجاز الغاية التي أُحدثت من أجلها.

يظنّ البعض أن تطبيق العدالة الانتقاليّة يحتاج إلى رجالات ونساء من أهل الاختصاص القانوني فقط، وهذا ليس صحيحاً، فهيئة العدالة الانتقاليّة المُستقلّة إلى جانب أنّها تضمّ صفوة القضاة والمُحامين والحقوقيين، يجب أن تضمّ أيضاً صفوة الفلاسفة والباحثين والكتّاب والمُؤرّخين والمجتمع المدني، مِمَن يمتلكون علماً وخبرة وضميراً حيّاً مُتّقداً، ولهذا من المفروض أن ينصّ قانون إنشائها على تمثيل هؤلاء جميعاً، إلى جانب تمثيل الضّحايا، بحيث يكون هؤلاء جميعاً مُوكل إليهم وضع النظام الدّاخلي للهيئة، ورسم سياسة الهيئة القانونيّة، والقضائيّة، والمُجتمعيّة، والتّاريخيّة، وكُل ما من شأنه أن يُحقّق فلسفة العدالة الانتقاليّة باعتبارها آليّة ضروريّة تنقل سورية والسوريين من ضفّة الاستبداد والإجرام والكذب والتزوير إلى ضفّة الحريّة والعدالة والحقيقة والتّاريخ الصحيح، لكي تستقيم بعدها الحياة السياسية والحقوقية لسورية والسوريين.

وبرأيي، وبرأي الكثيرين من رجال ونساء القانون والمُهتمّين والمُهتمّات فيها عُموماً، فإنّ العدالة الانتقاليّة في سورية تُواجه ثلاثة تحديّات رئيسة، أحدهما تقني، والآخر سياسي، والثّالث مالي.

أمّا عن التّقني

فهو يتعلّق بالبنيّة التشريعية السورية، والبنية القضائيّة للجهاز القضائي (المحاكم)، فالقوانين الجزائيّة السورية قاصرة، ولا تلحظ أيّاً من جرائم الحرب والإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الانسانيّة كما عرّفتهم محكمة الجنايات الدولية، (نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائيّة الدّولية){1}، وبالتّالي لابدّ من تحديد القانون الواجب التّطبيق على الجرائم المُرتكبة في سورية خلال زمن الثورة، ومن المُمكن أن يتّسع نطاق الحقبة الزّمنيّة لتطبيق العدالة الانتقالية إلى ما قبل زمن الثّورة، وأعتقد هذا الأمر هو رغبة للسوريين جُلّهم، في أن يَخضع تاريخهم وتاريخ سورية في ظلّ حقبة حُكم الأسد والبعث إلى العدالة.

وعليه لا بدّ من تحديد القانون الواجب التّطبيق كما ذكرنا آنفاً، إضافة لابدّ من إنشاء محاكم خاصّة وقد تكون مُختلطة (وطنيّة ودوليّة) تتمتّع بأعلى المعايير الدّوليّة في إنشاء المحاكم من حيث التّقاضي على درجتين، وضمان حقّ الدفاع، وعلنيّة المُحاكمات وبرامج حماية الشّهود.

وأمّا عن التّحدي الثاني (السّياسي)

وهو المُتعلّق بالسّلطة السياسيّة التي تحكم سورية اليوم، فعموم السوريين اليوم بمن فيهم أهل القانون، باتوا يرونها غير جادّة بتطبيق العدالة الانتقاليّة كما يجب أن تكون، ويرونها تتراخى، وتُميّع مفهومها، بل تتشارك سياسيّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً مع مُجرمي الحرب، حتّى الإعلان الدّستوري الذي صدر مُؤّخراً قد جاء النصّ عليها بعباراتٍ مُبهمة لا تفصيليّة، ولم يمنح الهيئة المُسمّاة فيه للعدالة الانتقاليّة، لم يمنحها الاستقلاليّة في النصّ الدّستوري. 

ناهيك أنّ جميع السوريين اليوم يتفكّرون إن كان تصريحاً أو تلميحاً في السؤال الاستهجاني التالي: كيف لهذه السّلطة والتي هي مُتّهمة أيضاً بارتكابها جرائم حرب، أن تعمل على تطبيق العدالة الانتقاليّة، والتي ستطالها بطبيعة الحال، كون العدالة عمياء، ويُفترض أن تُطبّق على الجميع ودون تمييز؟ هذا السؤال يجب أن يبقى في العلن، وليس في الهمس والسرّ، وبحاجة للإجابة عليه جهراً من الجميع، وليُطرح على السلطة أيضاً: هل سترضخين للعدالة الانتقالية بدورك؟

التّحدي المالي

وهو ما يتطلّبه تطبيق العدالة الانتقاليّة من مبالغ ماليّة هائلة، تُرصد لبنيتها التّحتيّة ولتعويض الضّحايا، ورواتب لشاغليّ وظائفها من قُضاة ومُوظفين وخُبراء وتدوين وأرشفة وبحث وتقصّي.

وأختم كما ابتدأت، العدالة الانتقالية هي مطلب ومبدأ، يجب أن يتوحّد حولها اليوم جميع السوريين، جميعهم ظالمين ومظلومين، فالتّطهر من الإجرام، القضاء العادل هو بوّابته فقط، والتّعالي على الانتقام، القضاء العادل هو بوّابته فقط، والحياة العامة السياسية والاجتماعية والحقوقيّة والوطنيّة للسوريين جميعهم، لن تتعافى دون ذلك، لهذا يجب أن تكون مطلباً ومبدأ لهم جميعاً، ولو استفتينا الشعب بعمومه عليها اليوم، لأجمع عليها، ما خلا المُجرمين الرّافضين للتّطهّر القانوني، والاستمرار في حالة الإفلات من العقاب.

 اليوم وكل يوم، العدالة الانتقاليّة يجب أن تبقى على سلّم أولويّات السوريين، والأمل معقودٌ على أخلاقييّ سورية من جميع فئات الشعب، أن يحملوها ويُنادوا بها ليل نهار نُريد: (هيئة عليا مُستقلّة للعدالة الانتقاليّة)!

_______________________________________________________________________________



اترك تعليق