”أنتَ للأرضِ أولاً وأخيراً
كنتَ ملكاً
أو كنتَ عبداً ذليلا
كل نجمٍ إلى الأفولِ
ولكن
آفةُ النجم أن يخافَ الأفولا.” إيليا أبو ماضي
اسمع:
مات أهلي!
لا تتصل بي. “لدي مشكلة في الماسنجر “. أنا لا أتظاهر بهذا لأجلك، فأنا أعرفُ أنك لن تتصل.
لن تعثر حتى على أبسط طريقة لتسألني: ما حالُكِ؟
”لدي مشكلة في الماسنجر “
سأتظاهر بهذا أمام الأصدقاء الافتراضيين، وكل من يلتمس مني خدمة الدعم النفسي الاجتماعي، لأني في الحقيقة لا أعرف كيف سأخبرهم أني بتُّ أعاني الإسلاموفوبيا.
لأن تلك الشعرة التي تدربنا على أن نحفظها في سنين دراستنا الجامعية، وصقلنا مهاراتنا في عِشرة المهنة على ظلها الرفيع، انقطعت.
والآن هاأنذا اليوم في الزاوية،
لم أعد أعرف كيف أمشي عليها كما كنت أمشي في السابق.
الآن كيف العمل؟
يا سلام على هالقفلة: معالجة نفسية لديها إسلاموفوبيا!
هل تذكر عبارة “بالذبح جئناكم” التي كنت تستخدمها كمزحةٍ سمجة حين تتأخر عن موعدنا.
تأتيني من خلف المقعد خلسةً وبخفة، تطلقها بسخرية لتشد انتباهي، وتضحكني، فتنجح بذكائك في تبديد حنق انتظاري.
تلك العبارة، هي ذاتها وجدتُها اليوم مكتوبةً على جدار منزلي المحروق بعد نهبه.
كيف صارت لصورة عينيك ذكرى مزحة سمجة بعد كل هذه السنوات؟.
أتذكر ؟
في إحدى محاضرات مادة الدعم النفسي وأساسيات الإسعاف النفسي الأولي،
يوم قال لنا الدكتور مُطاع: “express empathy, not sympathy”
حينها طلب الدكتور المساعدة في ترجمة كلمة “empathy” لنفهمها بأنفسنا، ويضيء المعنى الحقيقي لها في عقولنا قبلَ كل شيء.
بدأنا بتفكيك و ردّ المفردات لأصلها:
قلنا عطف، قلنا تراحُم، قلنا إشفاق .. قُلتَ تعاطف، قُلتُ تقمص،
نظرتَ في عينيّ وضحكتَ مني، فأردفتُها بـكلمة “عاطفي”
لماذا ضحكت مني وقتها ؟ىلقد ضحكنا معاً وقتها على أية حال.
لطالما كنا معاً، ضحكنا ودرسنا ونجحنا دائماً معاً.
هل تذكر كيف كنا معاً في مظاهرة كلية العلوم ؟
هل تذكر كيف تركنا جملة أغراضنا عند ناصية الطريق وانغمسنا بحماس بين جموع الطلاب نهتف بصوتٍ عالٍ، هل قلنا “الله أكبر” لمرة وقتها معاً؟ تكبيييير: حرية حرية حرية!
اسمع:
مات أهلي !
كان يمكن أن أموت هناك في (قرّاصة) حين هجموا كالقطعان على منازل أعرفها وتعرفني، هناك حيث وُلدت وكبرتُ تحت قناطر بيت الربد. أو في (المزرعة) حيث درَستُ وعرفتُ طعم الحب الأول.
في (الدويرة) و(لبّين) و(تعارة ) أو في (ذكير: الخربة) و(خلخلة) و(رضيمة اللوا) حيث تعرفت على أطفالي الصغار وعلمتهم ما أعرفه عن سوريا،
وأنها “بالعِلم تُبنى الأوطان” بالحب وبالشعر وبالموسيقى وبالفن، ولطالما أنشدنا سويةً في حفلاتنا المدرسية فاخرة التواضع:
”كتبت في دفتري عن وطني الأخضر
أغنيةً حــــــلوةً أحلى من الســــكر
يضحك فيه الغدُ والذهب الأسود
والشمس والأنجم لعزه سُلَّم
قد صار عبر الحقبِ بيتاً لكل العربِ “
أطفالي بدوٌ ودروز ومسيحيون، وها قد صاروا اليوم أطول مني، ربما هم يحقدون عليَّ الآن إذ صدقوني.
اسمع:
كان من الممكن أن أموت في بيتي في أم الزيتون الذي أحرقوه بعد أن نهبوه وكسروا نوافذه وأقفاله. أو على دوار العُمران وطريق الحج حيث كنا نتراشق بكرات بالثلج شتاء ونصنع التماثيل ونستلقي من شدة الضحك. هناك كثيراً ما كُنا نتمشى صيفاً على القارعة قبيل الغروب نحمل بأيدينا كمشات البزر المحمص والفستق أنا وإخوتي وصديقاتي.
تدري؟
في لحظات الخطر التي اختبرتُها، ما ساعَني إلا ان أرضخ للدعاء. فوجئتُ بنفسي أحفظ سورة “الكافرون” بين مجموعة أدعيتي الشخصية، ورحت أتلوها لأبدد هلعي.
لكنهم اقتحموا المنزل وحدث ماحدث.
لم تنفعني أي سورة، ولا سكين المطبخ الكبير من الوقوع في يد هؤلاء الهمج ذوي العصبات السوداء والحمراء الذين قالوا أننا نحن هم “الكافرون”
اسمع!
الثورة لم تنتهِ بعد، حين تُفتح المعابر الإنسانية سوف أسافر لجوءاً وأبدأ حياتي من جديد.
كم سيكون سفري سهلاً وخفيفاً، فأنا الآن لستُ مضطرة أن أُحملَ من قارة لقارة ورودك المجففة التي أحفظها في دفتري.
لكن ماذا ستعمل معالجة نفسية لديها الإسلاموفوبيا هناك في تلك القارة الأخرى.
أقول لك:
لا تتصل بي وإلا سأطلق النار على نفسي كما أطلقتها على ذكرى أيام أمضيناها معاً في دمشق.
لا تناصرني الآن، فماذا تُراها تنفع القُبلة على جبين الميت .
لا تضيع وقتك ووقتي وقد مات الحلم. لا تتصل بي. لا تضع لايك حتى.
قريباً سأصل إلى جثث أهلي التي تعيث فيها الديدان الآن في العراء منذ أسابيع. سأحتضنهم أياً يكن حالهم، وأُهيل علينا وعلى سوريا التي أحببتُ الترابَ .
اسمع:
لا تتصل بي. لا تواسِني. لا تضع لايك حتى. تصرف بشكل طبيعي كأنك لم تقرأ هذا فحسب.
لكنك تستطيع أن تخجل من صمتك لأنك تعلم أن الدوائر قد تدور يوماً وتطبق على أهلك بعد هذا، تَعلَمُ أن الإرهاب لا دين له.
ملاحظة:
لو أني ملكتُ ذات يوم حبيباً درزياً قُتل تحت التعذيب من قِبل النظام السابق.
فاليوم يكون قد أُتِمّ قتله تحت التعذيب مرتين.