ينتشر مؤخراً على منصات إعلامية تابعة للسلطة حملة أُطلق عليها اسم “السويداء منا وفينا“، Facebook+1. أعلنت عنها شخصيات فنية ووجوه إعلامية. وفي عنوان فرعي كتبوا أنها “حملة وطنية لدعم أهلنا وتعزيز التضامن السوري” كدعوةٍ لإعادة «الحياة» إلى المحافظة. ثم قرّر أحدهم أن يكون مكان إقامتها في قرية (الصَّوَرة الصغيرة)، وهي واحدة من قرى الريف الشمالي للمحافظة، وقريتي.
في ساحة القرية الفارغة من سكانها، نُشرت صور لأشخاصٍ لا أعرفهم يحملون مكانس وينظفون المكان.
كانت الصور بمثابة قدح من الماء في صحراء الذاكرة المُتعطشة للمكان. تفقدتُ البيوت والشوارع والتفاصيل الظاهرة في الصور كأني أتحسس عظام جسدي خارجاً من مركبة مُحطمة عظمة عظمة. النوافذ المتفحمّة كانت تُخبرنا بأن البيوت كما القلوب ليست على ما يرام مهما حاول “الكاميرا مان” تدوير الزوايا، ومهما حاول المؤثرون في حملاتهم غرز اُبر الـ “بوتوكس” في جسد السلطة المُترهل. تُحيلنا الحملة المُزمع إقامتها في 12 تشرين الثاني سريعاً إلى سؤالٍ بسيط لكن ثقيل: هل تحتاج قريتي إلى جلسة مكياج لتغطية خطوط وندبات حُفرت بدم أهلها، أم تحتاج إلى دفن جثث أبنائها التي أحرقها سواد القلوب وشمس تموز؟

اللقطات المنتشرة أخيراً من ساحة قريتي (الصَّوَرة الصغيرة) تُظهر رجالاً «ينظفون» الساحة بينما تبدو نوافذٌ المنازل سوداء مُتفحمة، والجدرانٌ المثقبة بالرصاص والقذائف ما زالت شاهدة على فداحة ما حدث. المشهد يوحي بعملية استدعاء بصريّ لبراءةٍ مستحيلة؛ تنظيفٌ لا يمحي آثار الجثث الموشومة في ذاكرة المكان، وطقسٌ احتفالي لإغلاق صفحة المجازر بمِكنسة. تحاول السلطة في دمشق اليوم المشي فوق آلام الناس وطي صفحة من الإبادة والتهجير بإقامة احتفالات كرنفالية لجمع التبرعات باسم الوطنية “سيئة السمعة” في المحافظة. تلك المفردة التي باتت تستدعي المقصّات وصيحات التكبير.
تسعى السلطة بوقاحة مفرطة بث الروح في جثة. بينما يرى الأهالي أنّه لا عودة إلى هذه القرى المنكوبة إلّا بعد خروج القوات الحكومية التي استولت عليها بعدما أوغلت بدمائهم وأرزاقهم وكراماتهم حتى النخاع.
بين الذاكرة والواقع
ما يجدر التوقف عنده بشدة، هو الفجوة بين هذه الصورة المروّجة وبين الواقع الاجتماعي للقرية. التي صَورتها تقارير محلية سنة 2022 كقرية «وادعة» ومجتمعٍ مدني متماسك{1}، ولعبت دوراً في الدينامية الاحتجاجية المحلية خلال حراك السويداء عام 2023، إذ شهدت ساحتها تلك فعاليات ثقافية ومدنية، وصدّرت مواقف سياسية صريحة مناهضة لنظام الأسد، وحضوراً شعبيّاً لم يخفِ انتماءه السوريّ المدني {2}. إن إعادة إنتاج المشهد الآن ــــــ بمظهر تنظيمي و”تجميلي” ـــــــ لا يبدو مجرد عمل إصلاح وجبر ضرر، بل محاولة لخياطة جسد ممزق بإبرة ومقص الجلاد. أهل القرية الذين تهجّروا تحت ضغط الهجوم المسلّح والمجازر لن يكونوا حاضرين في تلك الفعالية التي رُوج لها كـ «عودة أهلية». التقارير والشهادات المتداولة تفيد بأن أحداً من أبناء القرية لن يُشارك، وأن الحضور في غالبه من خارج المحافظة، المطلوب هو إنتاج الصورة الإعلامية المرغوبة، وتقديمها للجمهور المبتهج بالـ (الوطنية). هذا الغياب لأهل المكان، هو حضور من نوع آخر، لكن لمهزلة على شكل مسرحية بصرية تُقدم في الساحة العامة باسم «التضامن مع السويداء» بينما تستمر انفلاتات الوجود المادي لأصحاب الحقّ الأصليين.
على بعد أشهر من اليوم، كانت هذه الساحة ذاتها تصوغُنا كما تشاء، تمنحنا وجوهاً متشابهة وملامح حزنٍ لا تزول ولو كنا نضحك. أدركت أننا نعيش في مكان يراقبنا بصمت، وجوهنا تشبه جدرانه المتشققة، نرتدي تعبَه وننام على أنفاسه الثقيلة. كلّ شيء كان يذكّرنا بأننا ننتمي إليه مهما حاولنا الهرب، هو الذي ربّانا على الخوف، وأطعمنا رغيف الملح والحنين. وعندما غادرناها ـــــ أو أّجبرنا على ذلك ـــــــ تركنا على حجارتها وجوهَنا، نمشي مطأطئين بخفة من ليس له ظل. لم يعد لنا بيت، ولا نوافذ نطلّ منها على أنفسنا، تركنا خلفنا كلّ شيء، حتى قدرتنا على الحنين. الرماد الذي يُكنَس في الصورة ليس غباراً، هو تاريخٌ مكسور، يحاول أن يصرخ تحت طبقة من الطلاء. كل مكنسة تتحرك هناك، لا تُنظّف شيئاً، بل تُثير غباراً يُعيد إلى الذاكرة سؤالاً واحداً لم يُجَب عليه بعد:
من سينظّف المعنى بعدما غسلوه من الدم؟

في العمق، ليست المسألة فعّالية إعلامية، بل مواجهة وجودية بين الذاكرة والسلطة، بين من ينتظر لملمة بقايا موتاه، ومن يريد تحويل المقبرة إلى ساحة احتفال. فحين يُمحى الدم بالشعار، ويتحوّل الوطن إلى مشهد منظّف من الألم، نكون قد دفنّا الوطن مع الذين قُتلوا باسمه.
هذا الشرخ بين القرية والسلطة، لا يُقرأ فقط على مستوى الأرض، بل يمتدّ إلى بنية الجماعة النفسية. قبل الهجوم، شكّلت الساحة مسرحاً للتعبير المدني والوطني؛ صرخةً جماعية وفضاءً لالتقاء المواطنين على أرض مشتركة. لكنّ العنف والتهجير أفرغا ذلك الفضاء من دعاماته: من الحوار اليومي، من الروابط اليومية البسيطة، ومن الثقة بين المواطن والسلطة. محاولة السلطة اليوم «إعادة الحياة» عبر مسرحية مُعدّة لالتقاط لحظةً مصطنعةً، تهدف عملياً إلى استبدال الذاكرة الحيّة بذاكرةٍ معلّبة، ومن ثمّ تحويل الانتماء إلى فعلٍ يُشترى بصورٍ لا بواقعٍ. الجانب النفسي للجماعة هنا مركزي: الجماعة التي عايشت الفاجعة لم تعد قابلة لاستقبال الرواية الرسمية دون ثمن، ذلك أن الذاكرة تعمل كظرفٍ وجوديّ، هي ليست مجرد معلومات يمكن حذفها أو وقائع يمكن طمسها، بل هي تشكيلٌ لهوية الفرد والجماعة. عندما تُحاول السلطة طمس الأثر الرمزي للمجزرة، فإنها في الواقع تحثّ على دفن جزء من الهوية المحلية، وعلى تحويل الضحايا إلى عناصرٍ في لوحةٍ دعائية. هذا الفعل يولّد أعمق أشكال الصدمة: إجرامٌ مضاعف، يتجلّى في الجريمة نفسها ثم في إنكارها صراحة عبر محاولات تبديل المشهد.
لا يموت المكان حين تُحرق البيوت، بل حين يُعاد طلاء جدرانها بالكذب وإنكار الذاكرة. تستطيع السلطة أن تُنظّف الساحات والشوارع، لكنها لن تستطيع أن تُطفئ رائحة الرماد في ضمير من شهد الحريق. الجراح التي تُغطّى بالطلاء لا تندمل، بل تتقيّح تحت القشرة المصقولة. وربما، في مكانٍ ما بين الركام والصورة، ما زالت ساحة قريتي تنتظر من يراها بلا مكياج: عارية، ناقصة، حقيقية، وقادرة أخيراً على أن تتنفس..
_________________________________________________________________________
{1} الصورة الصغيرة.. القرية الوادعة الكبيرة بأهلها،موقع السويداء 24 suwayda24.com+1
{2} وقفة مسائية في قرية الصورة الصغيرة في الريف الشمالي لمحافظة السويداء أكد فيها المشاركون على استمرار دعمهم للاحتجاجات التي تعم محافظة السويداء https://www.facebook.com/share/v/1AYs9QYQYW/