تبرز أمامي صورةٌ قديمة جداً، تعيدني إلى ذلك الزمن الذي كنّا فيه نحتفل بكل خروجٍ عن رتابة الحياة، ليكون عيداً يستلزم طقوسًا خاصة. أنا البعيدة عن الوطن، أقفز بلا إرادةٍ لأُسقط الذكرى على الواقع الحالي، حيث يرجو أهلنا تغييراً يعيد حياتهم، لكن هذا يبدو أملاً بعيد المنال في المدى المنظور.
غداً، عندما يستفيقون من صدمة مراكز الإيواء، سيسترجعون بدموعهم ذكرياتٍ لن يستطيعوا لملمتها مهما حاولوا.
الصورة
تظهر فيها عائلتي.
أمّي في الخلف، وقد سمحت لغطاء رأسها أن يتراجع قليلاً ليظهر وجهها حسب متطلبات الصورة، وأبي يقف بملامحه الصارمة التي لم تكن تعرف الاسترخاء، فيفرض حضوره حساباً لكل حركةٍ وهمسة منا.
كنّا ثماني بنات. حين أنظر اليوم إلى وجوهنا الصغيرة في تلك الصورة، أرى في ملامحنا ما صرنا إليه.
أختي الكبرى في نظرتها نضج امرأةٍ اكتسبته من مسؤوليةٍ حمّلتها لها أمّنا المنشغلة بولاداتٍ لا تتوقف، فكانت في موقعٍ وسطٍ بين أمٍّ وأختٍ كبرى. ورغم أنها كانت الأكثر حظاً عند أهلنا ــ إذ لم تكن شريكتنا في العقاب ــ إلا أن عينيها تعكسان همّاً يسبق عمرها. كانت الوحيدة من البنات التي تغطي رأسها.
أختي الثانية نظرتها ثابتة، تكاد تخاطبك من الصورة بهالةٍ لا تُكسر ــ رغم الفقر وكثرة العدد ــ كانت الأكثر طولاً بيننا، لذلك تحمل أختي الصغرى التي لم تُكمل عامها الأول بعد، واللهّاية في فمها مع اليد التي تحملها تغطيان نصف وجهها. تلك الصغيرة الأكثر حناناً بيننا اليوم.
الثالثة نظرتها متحدّية، وقد ظلت على حالها، رفضت الخضوع للقيود في حياتها.
أما الرابعة، فتعكس كبرياءً وتصميماً صارا سمتها الدائمة.
وأنا، البنت الخامسة في سلسلةٍ طالت في انتظار الصبيان، لا أدري لماذا أبتسم ابتسامةً تكاد تصل شفتيّ بالأذنين، أقف بيدين مشبوكتين فوق بطني كما لو أني أتدرّب على صورةٍ رسمتها بعناية.
أذكر جيداً كيف أردفني أبي خلفه على دراجته الـ«هوندا» إلى الاستوديو مع أختي السادسة، وطلب منا المصوّر أن نُسرّح شعرنا. كم اجتهدتُ في تسريحه ليليق بتلك المناسبة العظيمة!
لم أفهم لماذا عبست أختي السادسة. لقد سرّحتُ شعرها بعنايةٍ مماثلة. فلماذا لم تفرح مثلي بالصورة ؟ لكنها فعلاً كبرت وصارت سريعة الغضب كما كانت يومها.
السابعة لم تحظَ بعنايةٍ كافية في الصورة؛ مذهولة كما هي اليوم بعد أن نجت من السرطان، وانقطاع الدواء الذي منعها من متابعة علاجها.
لم تكن أمّي قد أنجبت الصبيّين بعد، بل أنجبت بنتاً تاسعة قبل أن يُجبر الله خاطرَها بهما.
بيت الحلم الذي صار رماداً
أختي الرابعة سخّرت كل جهدها لتنتقل إلى المدينة وتستقل في بيتها الخاص. ترسم كل تفصيلة كما تشتهي، وتجمع فيه كل هدية أو تحفة انتقتها بعناية لتنسجم مع ما رسمته في خيالها. استنزفها تماماً حتى تَجَسَّد حقيقة أمامها.
كانت في دمشق يوم طالت يد الغدر مدينتنا، ووجهت قذيفة لحلمها الذي بنته في عشر سنوات، ليستحيل رماداً خلال عشر ثوانٍ.
عندما تمكنت أخيراً من العودة عبر الهلال الأحمر بعد أكثر من عشرين يوماً، استجمعت كل قوتها لتذهب وترى بيتها، وتقدّر حجم الكارثة. أول ما صفعها: رائحة الحريق مجبولة برماد ذكرياتها. بخطواتها المتثاقلة جالت لترى حجم الخسارة، فاجأتها حنفية، وحدها بقيت صامدة في مكانها. تلقّت الصورة ككنزٍ، أسرعت إليها. حاولت أن تفتحها فانخلعت القبضة بيدها، ليبرز قلب الحنفية المحطم إثر الانفجار كما تحطم قلب أختي، وحده الهيكل بقي صامداً. مثلما بقي هيكل البيت عارياً من كل كساء.
نيران نجران
أختي الثامنة ــ أصغر من كان في تلك الصورة ــ بنت بيتاً كاملاً، وفّرت بتدبيرها كل ليرةٍ استطاعت جمعها، لتكمله وتؤثّثه، فيكون بيت العائلة الدافئ.
اضطرّت إلى تركه منذ سنوات، لتنتقل إلى السويداء قرب مكان عمل زوجها. حين صار الطريق إلى نجران خطراً (نتيجة المواجهات المسلحة بين قوات نظام الأسد والمعارضة آنذاك في اللجاة)، بقيت مطمئنة ــ هي التي كانت تقول إنها «سمكة تموت خارج السويداء ــ لبقاء بيتها الأول هناك يضمّ مقتنياتها الأثيرة، لأن بيت السويداء مستَأجَرٌ ومتواضع.
نجران دفعت أكبر فاتورةٍ للدم: أكثر من سبعين شهيداً، وعدداً كبيراً من المخطوفين والمخطوفات. لم يكتفِ المهاجمون بذلك، بل أحرقوا معظم بيوت القرية بعد انسحابهم منها ولكن لم نخسرها مثل باقي القرى المحتلة. بعد انتهاء الهجوم، صار بيت السويداء البسيط ملجأً لأسرٍ عدّة من أقارب زوجها الذين أصبحوا بلا مأوى.
حين ذهبوا لتفقد بيوتهم، داعبها حلم أن يكون بيتها العزيز ناجياً من المذبحة، مشرقاً كما كان؛ لكنها وجدت فحماً أسود يلف كل شيء. لكن ما استوقفها ــ ولم تستطع أن تستوعبه ــ فهو أن مهاجماً مندفعاً كثور هائج، يفكر وسط كل هذا الجنون أن يرسل رسائل إدانة لفكرها:
في بيتها المحترق، كانت ابنتها قد تركت «سكوتر» ــ ربما اعتبروه من أدوات الترف ــ فأخرجوه قبل أن يحرقوا البيت، ثم أعادوه بعد أن خمدت النيران، ليبقى قطعةً ملوّنة وحيدة وسط هذا الظلام.
وتكرّر المشهد عند الجيران الذين وجدوا العود يئنّ حنيناً لما كان، حين أعادوه سالماً وحده على رماد الأرائك التي لطالما لمّت ضيوفها في جلسات طربٍ وأُنس.
ربما رأى المسلّحون الموسيقى والمرح شيئاً من «رجس الشيطان»، فأرادوا أن يقولوا لنا:
“دعوا آلات الشيطان الذي تحبّونه تنفعكم”.
المرأة التي فقدت رسالتها
صديقتي في السويداء كانت تحتفظ في خزانة مكتبها، برسالة خاصة وكيس فيه ثياب داخلية.
عندما عادت لتتفقد المكان بعد انسحابهم، بكت ــ ليس فقط على البطارية التي تولّد الكهرباء ــ وقد سرقوها قبل أن تسدد ثمنها.
ما مزّق قلبها أن المسلحين كانوا يتسلّون بخصوصياتها.
أخرجوا ثيابها الداخلية من الكيس، فردوها بعنايةٍ وتنظيم، ونثروا فوقها شظايا ورقة كانت رسالة حبّ من زوجها، يوم كان حبيبَها قبل أكثر من عشرين عاماً
بعد أن مزّقوها حتى صارت لا تُقرأ، وتركوها فوق المكتب الذي ظلّ في المعمل الصغير العاري من آلات كانت مصدر رزقها.
ثم فرشوا الأرض بما أفرغوا من معدتهم بدل استخدام المرحاض.
عندما أفكّر في هذا المشهد، أحاول فهم دوافعهم:
هل حرب الردة تتضمن العبث بخصوصيات النساء؟
أهو حنينٌ لا يعترفون به حتى لأنفسهم؟
رغبة بحياةٍ طبيعية يعيشون فيها الحب ويغازلون الجميلات بدلاً من إذلالهن بتهمة الحب؟
فيصرّون أن يُحيلوا كل ما يرونه إلى دمارٍ يشبه حياتهم؟
ذاكرة الصورة
كم بذلت جهداً للحصول على تلك الصورة من أرشيف الاستوديو، لشدة ما كانت تعنيه لي!
فأنت حين تنظر إلى الصور، ينفرد في ذهنك كل ما وراء تلك اللقطة: إرثٌ عائلي لا تبنيه بنقودك مهما كثرت، بل بدقائق تتراكم لتصنع تاريخك.
وحين تُنتزع منك بضربة مسلّحٍ يتسلّى بإذلالك وقهرك، لا تستطيع استرجاعها، حتى لو عوضوك لاحقاً ببيت بديل.
وحين أشكر الله أنني ما زلت أملك هذه الذكريات، لا أستطيع منع نفسي من الحسرة على الآخرين، على أختي التي قالت عندما أرسلتُ الصورة إلى مجموعة العائلة بلا انتباه:
“نحن تخففنا من كل الصور، فقد قرروا أن يحرِمونا منها، مع البيوت التي أُحرِقت بتاريخنا وذكرياتنا.”
ولكن رغم كل ما حرقوه من بيوت ومن قلوب، تبقى وجوهنا الصغيرة في تلك الصورة شهادة على حياةٍ لم تُمحَ بالكامل. ربما لن يُعاد بناء كل البيوت، وربما لن تُسترجع كل الرسائل، لكن ما زال فينا ما لا يُمسّ: الحب، الإلفة، والكرامة.
_________________________________________________________________________________
إقرأ أيضاً على صدى الجنوب: السويداء منا وفينا، حملة كوزماتيكية لذاكرة المكان