التحليل النفسي، والتدجين الثقافي

التدجين الثقافي
ماهر مسعود

يتناول هذا المقال بشكل مكثّف فكرتين مركزيتين في التحليل النفسي الفرويدي، ويعالج نقدياً أثرهما بالمعنى الثقافي، الاجتماعي والسياسي، الأولى هي الطابع الأوديبي الذي صبغ التحليل النفسي من أوله إلى آخره وقامت عليه فكرة قتل الأب، والثانية هي الرؤية التحليلية للرغبة بوصفها قائمة كلياً على مفهوم النقص. 

يقوم النظام الرمزي للتحليل النفسي بالكامل على النموذج العائلي والأسرة النووية، فالطفل يحب أمه وينافس والده وهذا ما يخلق عنده عقدة أوديب، والطفلة تحب والدها وتنافس أمها وهذا يخلق لديها عقدة إلكترا. وعبر آلية التداعي الحر التي تأخذ دوراً رئيساً في العلاج التحليلي، يعود المرء إلى مرحلة الطفولة المبكرة ليكشف عن مكامن مشكلاته النفسية التي بدأت هناك، لكن عندما يعود “المريض” إلى ماضيه الطفولي بمساعدة المعالج النفسي ماذا سيجد؟ بالتأكيد علاقته بأهله، عائلته، أبوه الذي كان يضربه أو يقلل من شأنه، أمه التي كانت تحب أخيه أكثر منه، غياب أحد الوالدين الذي ترك ندبات عاطفية أو مشكلات سيكولوجية بلا حل…الخ.

بالمعنى الثقافي، تُعتبر السردية الأشهر للتحليل النفسي في ثقافتنا؛ وثقافة غيرنا، هي سردية “قتل الأب”، حيث باتت رمزاً يدلّ على المثقف الثوري والشخص المتمرد والإنسان الحر. وفيها لابد من التحرر من الآباء والتخلّص من العلاقة الأوديبية معهم، أي لابد من قتلهم رمزياً للتحرر منهم وبلوغ النضج والاستقلال. ولذلك أصبح قتل الأب/المعلم/السلطة..الخ، بمثابة فعل ثوري كبير، بل هو الفعل الثوري عند النخب المثقفة، ولاسيما أنه يبدو كفعل مضاد للثقافة التقليدية السائدة، وهي الثقافة القائمة على طاعة الوالدين (الأب أكثر من الأم) والخضوع لإرادتهما وطلب رضاهما بطريقة تعزز الامتثال للهرمية العائلية بدل الاستقلال الفردي. 

لكن عند التدقيق النقدي في تلك السردية سنجد أن قتل الأب من جهة، وطريق التحرر من سيطرته من جهة أخرى، كلاهما يخضع للبنية العائلية ذاتها و يعززها. أي أن من يقتل أباه رمزياً، لا يتحرر من سلطته، بل يأخذ سلطة الأب لنفسه ويحل محلّه، يصبح هو ذاته أباً جديداً وهو صاحب السلطة التي انتزعها من الأب “المقتول”، وذلك يحدث ضمن سلسلة لانهائية من السُلط الجديدة التي تأخذ مكان السُلط الأقدم. والآلية النفسية التي تدفع الابن ليصنع نموذج للأب في ذاته قياساً على نموذج الأب المقتول، تتحصّل في الواقع نتيجة عقدة الذنب الراسخة أوديبياً تجاه الأب، ونتيجة الخصاء الذي تعرض له الابن في الطفولة. الخصاء الذي هو بالأصل خصاء قام به الأب للابن، ولكن بعد شعور الأخير بالذنب بات خصاء ذاتياً “فقء العينين” بالمعنى الأوديبي.

وبكلام آخر، الطريق الذي يقود إليه التحليل النفسي استناداً إلى النمط الأوديبي الشهير يوصل إلى التكرار السلطوي للنموذج ذاته، وبالمحصلة التدجين وليس التحرير. لأن التحرر من سلطة الأب ضمن هذا النموذج لا يكون تحريراً لقدرات الذات الفردية بشكل حقيقي، بل مجرد تحرير سلبي يقوم على استيلاء الابن على سلطة الأب. ولكي يصبح التحرر حقيقياً ويكون ثورياً بالمعنى الفعلي، لا يكفي أبداً ذلك النوع السلبي للتحرر الذي طرحه التحليل النفسي، بل يحتاج الأمر إلى تقويض النموذج الأبوي ذاته، وهدم البنية الأبوية ذاتها بحيث يصبح وجود أب متسلط هو بذاته أمراً مستحيلاً أو ليس ممكناً. وتلك الرؤية تغير العلاقة بين كل ابن وأبيه، وتغير علاقة كل طالب بأستاذه، وعلاقة كل مواطن برئيس دولته. التحرر الحقيقي من سلطة الأب هو تحرير النفس من نموذج الأبوة كاملاً وخلق علاقة مشاركة بين الآباء والأبناء، تحرير العائلة ذاتها من نموذجها الهرمي وخلق علاقة تفاعل أفقية يتبادل فيها الأبناء والآباء أدوارهم في الزمن ذاته، ويتعلم المعلم مع طلابه ومنهم. وبالتفاعل معهم بدل أن يلقّنهم من عليائه أو يُفرغ ما في رأسه عليهم، ويصبح رئيس الدولة موظفاً في خدمة الشعب وليس أباً للشعب.

لكن على اعتبار التحليل النفسي هو النموذج المثالي لتحليل عائلي، ولصناعة التوازن العائلي، ولتأكيد النموذج العائلي، فهذا يجعله نموذجاً يخدم الجوانب المحافظة في أي مجتمع لصالح الدولة، فالدولة تصبح نموذجاً رمزياً مُكبَّراً عن العائلة. وأهم عنصر مُكوِّن لمعنى العائلة هو أن تبقى متماسكة تحت النموذج المُكوِّن لها، حيث لا يشكل أهمية كبرى في النموذج العائلي. إن كان الزواج فاشلاً أو إن عانى الأبناء من العنف والتفكك الداخلي للأسرة. الأهم هو أن تبقى العائلة متماسكة من الخارج بوصفها “عائلة” أبوية. (لم يكن بلا معنى أن يُسمى حافظ الأسد “الأب القائد” أو يطلق على ميشيل عون “بيّ الكل” في لبنان، لأن المهم هو تماسك الدولة وليس سعادة أبنائها). 

الإنسان المثالي في النموذج التحليلي هو إنسان متكيّف ومتوازن وخاضع لسلطة النظام العام، ويهدف العلاج النفسي إلى إعادة تكييف الفرد مع المجتمع والسلطة. وخلق توازن للشخصية التي فقدت توازنها من أجل إعادة أقلمتها وتدجينها. فالمعالجة النفسية تنبني على دفع المريض لإعادة التأقلم مع واقعه والتصالح معه والتكيف مع شروطه. لكن إعادة التكيّف مع المجتمع والتوازن ضمن حدوده، هي في الحقيقة منع لتثوير الرغبات عبر استيعابها وعقلنتها تحضيراً لقمعها. ثم تحويلها وتوظيفها في خدمة ذلك الأب/المجتمع/ السلطة ذاتها التي خلقت الشروط الثورية للرغبة أو شروط الرغبة الثورية. 

تقوم الرغبة عند فرويد على مفهوم النقص، فنحن نرغب بما ينقصنا ونسعى نحو ما يشبع رغباتنا ويشعرنا بالكمال. وفكرة النقص سائدة اجتماعياً وثقافياً إلى درجة أن أحداً لا يسُائلها، بل إن الجميع يستخدمها في “التحليلات” اليومية بحيث تبدو مسألة بديهية ومتفق عليها. ومن الجدير بالذكر أن انتشارها الواسع جاء أصلاً من الأديان، فالإنسان ناقص والإله كامل في جميع الأديان، الإنسان ناقص ومخطئ دائماً وبالمعنى الجوهري، الخطيئة ذاتها نتيجة نقص، والإنسان مَدين للإله ومُدان من قِبله على نحو لا نهائي، وعليه أن يسدّْ دَينَه طوال عمره ويكفّر عن خطيئته عبر طقوس العبادة إلى ما لا نهاية. يشترك التحليل النفسي والدين برؤية النقص بالطريقة ذاتها، فرغباتنا تأتي من نقص- نا، وتعبّر عن نقص- نا، وهي دائماً مذنبة أو دائماً مخطئة (من الخطيئة وليس الخطأ العادي)، ولذلك تجد رغباتنا محشورة في “الهَوَ” الذي لابد من السيطرة عليه عبر “الأنا” لإرضاء “الأنا الأعلى” عند فرويد، ومحصورة بالأرض والوحل والجسد في الدين. ولابد من وضعها تحت مراقبة العقل والأخلاق والعادات الاجتماعية. وليس صدفة أن تتوازى ثلاثية الهو والأنا والأنا الأعلى عند فرويد، مع الثلاثية الدينية للأب والإبن والروح القدس. وإن كانت ظاهرياً تشير إلى معانٍ متخالفة، إلا أنها في العمق تشير إلى النموذج المتعالي ذاته. أي الإنسان المتكيّف مع كبح رغباته أو ضبط خطاياه قياساً إلى مثل أعلى “صِحّي/نفسي” أو “صراط مستقيم”. ولم يكن من المبالغة أن يشبّه فوكو أو دولوز وغاتاري المحللين والمعالجين النفسيين بالكهنة، أو يشبّهون كرسي المعالجة بكرسي الاعتراف.

لقد تسلل مفهوم النقص من التحليل النفسي إلى التحليل الثقافي والسياسي ليصبح سلباً ونفياً كاملاً لكل رغبة وكل ثورة خارج النتائج المضمونة مسبقاً والنهايات السعيدة. الرغبة ثورية وإنتاجية وقوّة تغيير اجتماعية بالمعنى الدولوزي وليست تعبيراً عن نقص، واللاوعي هو مصنع لإنتاج الرغبات والإبداع وليس مسرحاً للتمثُّل والتمثيل، الرغبة خالقة وفاعلة ومنتجة لنماذج غير معروفة مسبقاً، نماذج غير مكتوبة في اللوح المحفوظ للمُتعالي ولا مطبوعة على مسرح اللاوعي.

كان إريك فروم قد بيّن في كتابه “الإنسان بين الجوهر والمظهر” أن الشخص الطبيعي في العالم المعاصر هو العُصابي، فإن لم تكن عُصابياً أمام ضغوط الحياة المعاصرة فأنت غير طبيعي وليس العكس. أما جيل دولوز فقد ذهب أبعد من ذلك بكثير عندما اعتبر أن ما يفعله المعالجون النفسيون ضمن الرأسمالية المعاصرة، هو أنهم يدفعون الناس للاعتراف وتفريغ الغضب والإحباط واليأس في العيادات المغلقة، ويعيدون تأهيلهم للتوافق مع عجلة السوق، بدلاً من خروج الناس إلى الشوارع للتعبير عن رغباتهم الثورية المضادة للنظام القمعي الذي يطحنهم في ماكيناته ويدجنّهم ليصبحوا مواطنين صالحين ومتكيّفين مع ما يقمعهم.

ليست أمراضنا الفردية هي المشكلة، ولا علاجاتنا الفردية داخل العيادات هي الحل، فالمرض يشحذ قوة الحياة في النفس مثلما يقوّيها في الجسد وليس بالضرورة مؤشراً للموت الحتمي، كما أن الخطأ والفشل والنقص والخطيئة هي طرقنا الأفضل لمعرفة الصحيح والمناسب لحياتنا في الهنا والآن، وصياغة فهم أعمق للتاريخ والمستقبل. 

إن عالمنا المفتقد للحلول على كل المستويات البيئية والسياسية والاقتصادية والثقافية هو المشكلة، وأمراضنا هي مجرد أعراض لذلك الصدع الوجودي الكبير. ولذلك إذا كان هناك وصيّة مناسبة لعصرنا ولم تُذكر في الوصايا العشر القديمة فلا بد أن تكون: لا تتدجّنوا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إقرأ أيضاً المراقبة والعقاب..عنف أسري ناعم

اترك تعليق

الكاتب

اقرأ أيضا

تابعنا

شارك المقال