“في مرايــــــا العنف”
تكتب دونا هاراوي في مانيفستو سيبورغ “أجسادنا هي ذواتنا، وهي خرائط السلطة والهوية”. في هذه العبارة يشتبك الجسدي بالثقافي على رحابة مدلولاته السياسيّة والاجتماعية والثقافية، بحيث تكون الجنسانية وفقاً لهذه الرؤية كاشفاً عن ذهنيّة عصر بأكمله؛ فالجسد مرآة الذات بكل آلامها ومسرّاتها. ويمكن أن نتحرى من خلال النوادر في خطاب الجنسانية العربية القديم، الذهنية الثقافية التي تكشف عن قصور في الرؤية لهذه المسألة، على العكس مما توحي به من جرأة دفعت البعض إلى الإطراء على هذا الخطاب، منظوراً إليه في أفق كسر المحظور. فقد امتلكت هذه الثقافة جرأة الخطاب وخرق المحظور، وحظيت بالإعجاب. بل يعتبر البعض أنّ هذه الشجاعة لم تعد متوفرة في عصرنا الراهن. لكن نقد هذه الجنسانية وتحليلها بخطاب عقلاني، وتفكيك الأنساق الثقافية فيها ظل مغيباً عن الفكر المعاصر.

حين تتحدث شهرزاد عن جسد المرأة، فهي تفعل ذلك لإشباع فضول شهريار وإرضاءه والتنفيس عن غضبه، بحيث تنفصم هويتها الأنثوية عن جسدها الذي تنظر له بعين ذكورية
ولعل أهم ملامح قصورها أنّ التخييل الذكوري يحتل فيها مركزية السرد: فصورة المرأة في المخيال الذكوري كما تقدمها كتب التيفاشي* والقزويني* والسيوطي* تكرس وضعيّة مهينة للمرأة، بوصفها أمَة أو قينة وجراية ومتاع للرجل. كما أنّ صورة المرأة الاجتماعية ليست من صياغتها. فبالرغم من أنّ المرأة ترد في هذه النصّيات، “فاعلاً جنسياً يملك صوتاً وإرادة فاعلة، إلا أنها لا تحضر راوية وقائلة ومدونة، فالرجل جردها من سلطة الكتابة والتدوين التي يحتكرها ، من أجل صياغة المفاهيم والتمثيلات اللغوية البطريركية“.
وفي جميع هذه المرويات تظهر النساء بوصفهن “شيطانات متلونات”. هذا ويغلب على هذه المدونات الفكاهة والسخرية، التي تحمل في طياتها كراهية للنساء. بحيث “تعبر العدوانية عن نفسها بعدة طرق، أحدها الضحك، فالأدبيات الكارهة للنساء، وهي الوسيلة الرئيسية للعدوانية الذكورية، تحمل في طياتها العظة والفكاهة في نفس الوقت،” وتحت هذه الفكاهة يظهر الجنس فعلاً عدوانياً صرفاً، فالتعبير عنه يتم بكلمات كالبطش والانتهاك والاستلاب، من قبل طرف نحو طرف أضعف أو مستباح.
وعبر جولة في كتاب “نزهة الألباب” للتيفاشي، وقراءة أشعار (أبو نواس)، والتأمل في مرويات الجاحظ ذات الطابع الساخر، نرى أنّ الجنسانية في سياق هذه الذهنيّة ينظر لها بوصفها فعلاً شائناً، يهدف إلى إلحاق العار والضيم بالمفعول به، كما أنّ أشعار (أبو نواس) التي ترد في كتاب النصوص المحرمة، (تحقيق جمال جمعة والصادرة عن دار الريس)، تحمل من العدائية والامتهان للمرأة ما لا يمكن إيراده هنا.
وفي هذه الروايات يظهر الجنس معادلاً للإهانة، فـــ “البصائر والذخائر” على سبيل المثال، تزخر بنصوص تنتهك صورة المرأة، وتجعل منها هدفاً خاضعا وأقل قيمة. ولم تقتصر هذه الانتهاكات على الخطاب الأدبي أو الشعري أو الفقهي، بل ورد في هذه المرويات أنّ القائمين على شعائر الدين كانوا يبيحون هذه الانتهاكات، عبر التلاعب بتفسير النصوص القرآنية.
وفي ألف ليلة وليلة نجد أنه ورغم كون راوية الحكاية امرأة، لكن رواياتها مشبعة بالفكر الذي يحطّ من قيمة المرأة. وحين تتحدث شهرزاد عن جسد المرأة، فهي تفعل ذلك لإشباع فضول شهريار وإرضاءه والتنفيس عن غضبه، بحيث تنفصم هويتها الأنثوية عن جسدها الذي تنظر له بعين ذكورية. والسؤال الذي يطرح في هذا الخصوص يتعلق بنمو ظاهرة العدوانية تجاه النساء، التي تتبدى عبر ظاهرة العنف المنزلي، وحوادث القتل والجرائم التي ترتكب ضد النساء. أما المظهر الآخر فهو العنف اللغوي أو الثقافي في الكثير من الأعمال الأدبية والفنية المعاصرة.
ويعتقد البعض أنه ومما يلفت النظر حقاً هو “انحسار العدوانية في القرن التاسع عشر وعودتها للظهور في أدبيات القرن العشرين”.
وهذا ما لاحظناه في أعمال أدبية كُتبت في الفترة التي شهد فيها الوطن العربي تقلبات ومحن سياسية واقتصادية، ما أدى لانتكاسة في هذا الإطار. وعوضًا من أن تُعاد صياغة العلاقة بين الجنسين، فقد كرست هذه الأعمال صورة مهينة لها. ونذكر على سبيل المثال (رواية “انتصاب اسود” “مشفى الرازي” للكاتب أيمن الدبوسي. ورواية عشيقات النذل لكمال الرياحي. واستخدام الحياة لأحمد ناجي. وأمثلة كثيرة يمكن أن نرى من خلالها حجم العنف اللغوي والثقافي الممارس على جسد المرأة. ولابد من التمييز أنّ هذه الأعمال انطلقت من صورة مكرسة لا لتوضيحها بل لتثبيتها. فالعنف فيها يرتبط بالتفريغ والحرية، لكنه يوجه سهامه إلى جنسانية المرأة واختلافها. ويحضرنا في هذا المجال جورج باتاي، بمقولته “أنّ الادب ليس بريئاً”.
إنّ التنقيب في الفكر المعاصر يكشف في عمقه أنّ التنوير العربي لايزال يحمل رواسب الجنسانية القديمة. ورغم ادعاءاته فهو لن يتخلى بسهولة عن نظرته للمرأة. التي حاولت عبر الكتابة. وكرد فعل على هذه الخلفية، ولإعادة الصوت للهامش وتحريره من نظرة ذكورية؛ لكنها لم تستطع القيام بالخطوة الكبيرة وهي: “الانتقال إلى تجسيد ذلك قانونياً. وبلورة رؤية إنسانية للجنسانية العربية”.
فالانتقال من مساحات الحميمية إلى السياق السياسي، هو خطوة كبيرة يحتاج إرادة سياسية وصياغة للقانون، وتغييراً في العقلية ونقداً للتراث. ويعتقد أسامة إسبر بأنه “وإذا كان اللاعبون وخدم السلاطين والمتعصبون قد تمكنوا على مر العصور من تأويل النصوص الإسلامية بالطريقة التي تخدم مآربهم السلطوية والمصلحية، فلا شك أنّ تأويلاً جديداً يبحث في الإسلام عن ينابيع الحب والتسامح والانفتاح”.
اقرأ أيضاً: تنشئة جنسية… أم تنشئة على العنف
أي قراءة انقلابيّة جديدة تشِّرع للاختلاف وتنفي التعصب والانغلاق، فالجنسانية العربية على غرار الظواهر الاجتماعية المتعددة: مرآة يمكن لنا أن نحدق فيها، وأن نتحرى الحقيقة بأجسادنا، لأن الحقيقة فكرية وجسدية معاً.
ولعل أهم نتيجة لتنميط المرأة واغترابها عن جسدها وفقدها لكينونتها، هو زجها في صراعات وهميّة مع بنات جنسها، “الواحدة ضد الأخرى كمتنافستين، الحرة مقابل الأَمة، الزوجة مقابل الجارية”.
إنّ الجنسانية المعاصرة مازالت تحبو. وإنّ قراءة الرجل لجسد المرأة ستظل تراوح في منطقة سوء الفهم، ولابد من تأسيس القراءة على قواعد جديدة، تنطلق من منطقة الشك لقلب بطانة السرد. والبحث عن القطبة النافرة والرخوة فيها. ولابد أن نعامل اللغة بمزيد من الارتياب، فهي –أي اللغة-كوسيلة هيمنة وتلاعب، تخفي نصاً تحتيًا لا بد من تفكيكه وإبرازه، لتقديم فضاءات بديلة. ومن خلال رؤية متحررة تشتبك مع الثقافي، وتتخلص من انفصام الرؤية، لبناء سرديــــّة لا تمتهن أياً كان سواء أنثى أو ذكر أو المختلف عنهما. وولادة ثقافة لا تبدل التسميات وتحافظ على الجوهر الرّث. إنّ ما طرحه غوكشين يضع الثقافة المعاصرة في مأزق إنساني، فهو يسأل:”لقد انتهى عصر الإماء والجواري لكن ماذا عن عصر الخليلات والمحظيات؟
عبر مقاربة جديدة للجنسانية العربية القديمة، مقاربة تفسر وتفكك وتؤسس لمشروع حداثي متحرر وحقيقي. وهي ستعمل في أفق مشروع عربي. لا يستمد من الحداثة الغربية نسغ وجوده، بل يضع معوله في تربة التراث. متمثلاً قول أبقراط “يـــــُداوى العليل بحشائش أرضه”.
هوامش:
– كيت ميليت، ت: عايدة سيف الدولة النسوية والجنسانية: السياسات الجنسية (سلسلة ترجمات نسوية، (مصر، مؤسسة المرأة والذاكرة، ط20161)
-شهاب الدين احمد التيفاشي. نزهة الألباب. تحقيق جمال جمعة (لندن. منشورات دار الريس، ط1 1992)
-أسامة أسبر، الإسلام في مرايا العنف (مقال منشور في موقع جدلية)
-عبد الصمد الديالمي، سيسيولوجيا الجنسانية العربية، (بيروت، دار الطليعة، ط2009)