ربيع مرشد

يمكن لذاكرة قاص مثلي أن تشطح في جهات المخيّلة جميعها، فمخيلة القاص مكان يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء، هذا على الأقل ما كنت أعتقده، قبل أن أكون شاهداً على المجزرة، فكل الصور التي يمكن استحضارها عن أيّ سلوك بشريّ فرديّ أو عام، لن تكون أكثر من لطخة شاحبة أمام رائحة الدم في هذه اللوحة الحيّة. ما حدث أمام عينيّ، أمام أعين الجميع، ما حدث في السويداء، حكايةٌ تستعصي على الكتابة
…
1 ــ في الحارة التي أسكنها، دخل الغزاة منزلاً ليس فيه رجلٌ أو طفل. كنّ مجموعة فتيات من أهل البيت ومن الجارات المُستجيرات. أمر أحد جنود الأمن العام الأمّ العجوز بالذهاب إلى الغرفة الأخرى، وأن تغلق الباب خلفها. ما حدث، أنّه لا يمكن لمخيلة في العالم أن تسبر مقدار ألم الأمّ. لقد كانت تستمع لصرخات بناتها وهنّ يُغتصبن، ثم اخترقت أذنيها أصوات الرصاص، وقهقهات متوحشة، تبصق على درزية هؤلاء الفتيات، وعلى كفرهن. وبعد رحيل الجنود ساد صمتٌ رهيب.. رهيب في قلب الأم الذي توقف
2 ـــ حدث في البناية الشرقيّة المطلّة على البيت الذي حدثت فيه المجزرة، أنّ الأمّ التي خشيت أن تفضح بنتها الصغرى ذات السنوات الست صمتهن، الأمّ التي خشيت أنّ يدلّ صوت الطفلة الخائف على مكان اختبائهن، قد حملت بندقيّة صيدٍ، لا لتقتل المقتحمين، ولكن لتقتل بناتها ونفسها، فهي تعرف معنى أن يُؤخذن سبايا. الطفلة الصغيرة تكوّرت على نفسها في الجحر المظلم الذي لاذت فيه، رغم أن الجنود لم يدخلوا المنزل، لكن الطفلة، ما زالت منذ شهرين مختبئة في ذات الجحر. ويدُ الأمّ مازالت متيبسةً على الزناد.
3 ـــ ما حدث: والد صديقي، لم يغادر منزله، فهو منذ ثمانِ سنوات ينتظر أولاده المسافرين. يخجل أن يعود أولاده فجأة، ولا يستقبلهم بفنجان القهوة المرّة، قهوته لم تبرد منذ ثمان سنوات، فأولاده الثلاثة ومنهم صديقي عدنان، ممن كانوا مطلوبين للأفرع الأمنية إبّان حكم الأسد. فتح الباب كعادته حين يقرع الباب، حاملاً برّاد القهوة والفناجين في يده، على عادة أهلي أهل السويداء في استقبال الضيف. دخل الجنود المنزل، صبّ لهم القهوة التي لم تبرد كل تلك السنوات بانتظار أولاده، وحين شربوا قهوته، شكروه بقصّ شاربيه على سنّة النبي، وودعوه برصاصة في الرأس.
4 ـــ حدث أن طفلاً شاهد بأمِّ عينه كيف يحاولون قتل أبيه، انتفض كنمرٍ جريح، وهجم مدافعاً عن والده وعن عائلته. لا شكّ أن الجميع شاهد فيديو الطفل صالح عكوان، جميعنا رأى نظرات الخوف على وجه الجنود المسلّحين حين انقض صالح الأعزل عليهم لينقذ والده!… لكن الرصاصة الجبانة قتلت الطفل، قتلت الشاب الجميل الذي سيكونه، بعد أن قتلت عائلته فرداً فرداً.

5 ــ حدث أنه في منزل ما، وعلى شرفة ما في هذا المنزل، وخلف زجاج الباب المطلّ على الشرفة، كانت عيون امرأةٍ ما، تشاهد ثلاثة شبّان: مهندسين وطبيب، أمرهم الجنود أن يرموا أنفسهم من على الشرفة في الطابق الرابع، والعيون التي كانت خلف زجاج الباب تنظر إلى سقوطهم، كانت عيون أمّ تشاهد أبناءها الثلاثة يتساقطون والرصاص يخترق أجسادهم.
6 ــ حدث أن كان هناك دبّابة تجول في الشوارع، وحدث أنّ قذائفها كانت عمياء، وبفعل الصدفة لا بسواها كان أحد شباب السويداء، شابّ سوريّ مثلهم، مثل الذين يركبون الدبابة، له السحنة نفسها، وربما كان يهتف في ساحة الكرامة من أجل من يركبون الدبابة: واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد، وللصدفة وحدها هذا الشاب لم تنل منه قذيفة أو شظيّة عمياء، إنما صعد عليه سوريون يشبهونه بجنزير دبابتهم.
7 ــ ما حدث أن عائلة أخفت طفلتها الوحيدة في الخزانة، تحت كومة من الثياب. كان الجنود على عجلة من أمرهم، لتحرير السويداء من أهلها. دخلوا المنزل بسرعة، قتلوا الأب والأم بسرعة، ثمّ بسرعةٍ رحلوا، تاركين الطفلة بعد أن غادروا تمشي ببطء ببطء شديد على دم والديها.
8 ــ ما حدث ليس معادلةً صعبة الحل، كانت معادلةً مستحيلة. لهذا لم ينجح أحدهم قبل أنّ يطلق الجنود عليه الرصاص، بإحضار الخبز المفقود لعائلته، ولا بإقناع جنود يعتقدون أنّه من لم يكن سنياً، لا يمكن له أنّ يكون سورياً
8 ــ ما حدث، أنه في دوار الملعب في قلب السويداء وعن سابق إصرارٍ وترصّد، تمّ إطلاق النار على من قال: الدين لله والوطن للجميع.
..
لا.. هذه ليست مخيلة كاتب قصة، هذا حدث فعلاً، وغيره الكثير الكثير، مّما لن أتمكن يوماً من كتابته، لقد حدث في المكان الذي أعيش فيه اللامعقول بكامل وطأته، لقد حدث الامتحان الأصعب للمخيّلة، والأقسى للذاكرة