
كنا ثلّة من طلاب الجامعة في اجتماعٍ غير متجانس، مختلفين مناطقياً ودولياً، جمعتنا بالمصادفة البحتة طاولة في قهوة ما.
بعد التعارف وفتح أحاديث عامّة مبتعدين قدر الإمكان عن السياسة التي كانت من الممنوعات في وقتها، ويبدو أنها ستكون حاضرة في كل الأوقات اللاحقة، سألني الشاب الأسمر الهادئ المثقف غير المريح: “من أين أنت؟”.
“من السويداء” أجبته بفخرٍ غير معلن.
“أحيّي كلّ جنوب في هذا العالم” قال، ثم صمت كالبئر.
لم أفهم وقتها معنى جملة الشاب الأردني المُنتدب من مملكته ليدرس التاريخ في العاصمة السوريّة.
يبدو أننا هنا، في هذا الجنوب الإشكالي، وفي بلدٍ إشكاليٍّ بدوره كان يوماً بوصلة المكان، وهو ما فهمته لاحقاً الحكومات المتواترة على دمشق، فانقسمت ما بين طالب رضى الجبل، وبين المعادي له، معتبراً السويداء رأس أفعى أعدائه .
أكرر سؤالي: “لماذا الجنوب؟!”.
سقطت عائلة الأسد، كان رأسها المخيف “حافظ” قد تعامل مع السويداء بفهمٍ أكثر مكراً وحنكة من بقية الحكّام، من اغتيال زعمائهم، إلى إدارة ظهره لهم كما كانت سياسته المعروفة للقاصي والداني: (أدِر ظهرك للرجال يتبعوك)، ويبدو أن ما كان يريد فعله هو: (أدر ظهرك للجبلين يتبعانك). وفي الحقيقة ليس الجبلان فقط، وإنما عمل أيضاً على إقصاء كل الشخصيات الوطنية من كل الطوائف، وكذلك البرجوازية الوطنية التي كان لها الحصّة الأكبر من سياسة الأسد الإقصائية؛ فأفقر العلويين حتى يبقيهم جنوداً في جيشه السلطوي، أفقر جبل العرب حتى شتت أبنائه في أصقاع الأرض، سجن المعارضين وقتلهم في سجونه …وهكذا.
الآن سقطت المنظومة كلها، نعم سقط الأسد وفرحت الناس، لكن ما الذي تركه خلفه؟.
ترك لوثة من البغض، والكراهيّة، والطائفيّة في نفوس الكثير من السوريين، جعلهم مهجوسين بالبحث عن مخلّصٍ ما، كانوا قد وجدوه في التزمّتات الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة.
نعم، سقط الأسد، أتاني اتصال حوالي الرابعة فجراً من أحد الأشخاص من غير المعنيين تماماً ببقائه أو سقوطه، يزفّ لي الخبر والفرحة ترهق حلقه. وبالرغم من ضبابية المستقبل وإشكالية غياب الثقة بالمستلِم الجديد، إلا أن فكرة الخلاص من الحكم المديد كان بحدّ ذاته أمراً عظيماً.
لم يستيقظ الناس من الحلم الورديّ حتى عادوا مجدداً للمراقبة بأعين التوجّس والترقب.
كانت الطروحات الأولى والرئيسية في السويداء تتلخص بالمواطنة الحقيقيّة والكاملة، بالعدالة الانتقالية التي ظنّت أنها مطلب شعبي كامل مكتمل، السويداء التي أعادت الروح لثورةٍ كانت على وشك الذبول والتلاشي، استقبلت كلّ السوريين الهاربين من جحيم مدنهم بالحفاوة والترحاب، تقاسمت معهم الرغيف والحب، دون أن تسأل أحداً منهم:” اش يعني سوري”. هزجت برفقتهم أغاني الثورة، ليس ابتداءً بـ سميح شقير وأغنيته المدروسة بحنكة: “يا حيف”، ولا انتهاء بالجاموس”أبو وطن”. السويداء التي أعادت المخاض الأول لولادة طفلٍ ظنّته صحيح الجسد والعقل؛ لكنها قوبلت بكل ما هو قاسٍ ومؤلم، المقصّات المسنونة لشوارب الرفعة والسموّ، الرمي من الشرفات، اغتصابات بالجملة، قتل النساء والأطفال في البيوت والمشافي، الذبح بأبشع الأساليب، بنهب الأرزاق وحرق القرى.
لم تكن المشكلة الأكبر تكمن بالموافقة والصمت من الآخر فحسب، بل والشماتة وقلب الحقائق، والتجييش الكامل على مساحة أفقية تبارك ما حدث في ساحات المدن السورية.
يعيدنا هذا المشهد اليوم بالذاكرة إلى أيّام أديب الشيشكلي منتصف الخمسينات، وكيف أسقطته القوى الديموقراطيّة “من المكوّن السني على وجه الخصوص” بسبب إرساله للجيش حتى يقاتل أهل السويداء، كيف عوقب وأُجبر على الاستقالة حين حاول التطاول على (أبناء البلد)، نعم، وضعتها بين قوسين بشكلٍ مقصود: أبناء البلد، لأنه كان ذاك البلد الجدير بالتسمية، القلب على القلب، الروح تغازل الروح، لا فرق بالمناطق سوى باللهجة المحليّة. كيف كانت الجامعات بذوراً للتغيير، شبّان يمتلكون من (الوعي) ما يؤسس لاختلافٍ صحّيّ خلاق، فتدار الجلسات، وحلقات الصالونات الثقافيّة. أسماء مضيئة: من ماغوط الصحراء والفقر إلى أدونيس البحر والشعر، من عدوان وزيره السكّير إلى العجيليّ وسرديّاته، من ألفت الإدلبي وكوليت خوري وغادة السمّان وصولا إلى نون النسوة الدمشقيّة العريقة.
أخ البارحة عدوّ اليوم
طيب؛ ما الذي حدث الآن؟ كيف صار أخ البارحة عدوّ اليوم!.
هنا علينا العودة إلى أسس وجذور التزمّت. من دون شكّ، سيفرز الحكم المستبد والحديديّ على مدى عقود، أسوأ أشكال التعصّبات، حين تجد نفسك مكبلاً مكمماً مقموعاً ومقهور، لا تستطيع فعل شيء، تخاف حتى من الهواء الواشي؛ فليس من سبيلٍ أمامك إلا اللجوء إلى دوائر الانتماء الأضيق، لتبدأ تراكميّة العصبيات الدينيّة والمذهبية والمناطقية، فنشأ جيل كامل محروس بالظلم والظلام والركون إلى الغيبيات، أو كما يقال في المثل الشعبي: (الّلي ما بتقدر عليه… حِيْلْ الله عليه)، جيل محكوم بالقهر والحرمان، بالضغط وراء الضغط، حتى جاءت حركة الشاب التونسي الحارقة، ولحظة الربيع العربي الذي اتضح أنه لم يكن ربيعاً حقيقيّاً؟ لأنه ببساطة لم يُزرع في تربة العلم والحداثة، ولم يُسقَ بماء الفكر والمفكرين المقموعين أساساً. لم يخرج من الجامعات المحاصرة أمنيّاً، بل من الجوامع المشكوك بمرجعية صلاحيتها الثوريّة.
مرّة أخرى: لماذا الجنوب؟.
وللحديث بقيّة….